Monday, December 27, 2010

دليل وادي النيل....... لعامي 1891 و1892

هذا دليل عام لمصر ومدنها الرئيسية كما بدت منذ مائة وعشرة من الأعوام، وقد الفه"إبراهيم عبد المسيح" على غرار الأدلة السنوية التي كانت تصدر في اوروبا لتضم اسماء وعناوين المتاجر والمصانع وأرباب العلوم والفنون 
والكتاب يضم معلومات وفيرة لوصف المدن الرئيسية في مصر ،وأسماء أهل الحكم ووظائفهم ، والنظارات (الوزارات ) المختلفة وموظفيها والقنصليات والفنادق والمتاجر والصحف وغيرها من المعلومات التي يمكن أن تساعدنا على تصور مصر قبل أكثر من مائة عام

انقر على صورة الغلاف لتحميل نسخة كاملة من الكتاب    



Saturday, December 25, 2010

تسريب المعلومات‏..‏ إعاقة الدولة القومية

خلال أعوام ثلاثة من وجوده علي الإنترنت غير موقع تسريب المعلومات ويكيليكيس إلي غير رجعة مفاهيم كانت قد استقرت في وعي الإنسانية علي مدي عقود وربما قرون ماضية‏.‏

فمفاهيم مثل سرية المعلومات وسيطرة الدولة عليها لضمان أمنها وأمن مواطنيها اصبحت محل تساؤل‏,‏ كما أن ما استقر عليه الأمر من تفويض للقنوات الدبلوماسية والأجهزة الاستخباراتية المعاونة لها للحصول علي المعلومات وإبقائها بعيدا عن متناول الأخرين من المواطنين والأعداء علي حد سواء أصبح محل جدل، خاصة فيما يتعلق بجدواه ومنفعته للمواطن العادي‏.‏

والواقع أن تاريخ الدبلوماسية الحديثة وما تلاها من ظهور أجهزة الاستخبارات والمعلومات جاء كأحد النتائج البارزة لاستقرار الدولة القومية باعتبارها اللاعب الأساسي في السياسة الدولية‏.‏ وقد نمت داخل هذه الدولة القومية تقاليد الدبلوماسية الحديثة وفي ظل الثورة الصناعية والتطور الرأسمالي اللذين أديا إلي الحقبة الاستعمارية‏,‏ وهي الحقبة التي تنافست فيها الدول القومية الأوروبية بين بعضها البعض علي مناطق النفوذ والتمدد في أنحاء العالم المختلفة‏.‏

في هذه الحقبة ترسخت تقاليد الدبلوماسية الغربية التي تمحور دورها في المساعدة في تأمين الأسواق لمنتجات مصانع مواطني الدولة التي تمثلها‏,‏ والذي يعود بعوائد ضخمة علي أصحاب الأموال والرعاة الرأسماليين للنخب الحاكمة فيها‏.‏ ويؤكد ذلك ما يعرفه دارسو تاريخ الدبلوماسية الأمريكية الذي يتفق الجميع علي أنها بدأت عملها الدبلوماسي الدولي في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية في سبعينيات القرن التاسع عشر بالسعي لوضع المنتجات والسلع الأمريكية علي خريطة الأسواق العالمية‏.‏

في هذا السياق نشأت الأفكار الأولي عن سرية المعلومات ونشأت الموجة الأولي من أجهزة الاستخبارات حيث جري تمرير فكرة أهمية المعلومات وسريتها كأحد الأسلحة المهمة في المنافسات الرأسمالية الشرسة‏,‏ وتدريجيا أصبح الحفاظ عليها أحد مؤشرات الكفاءة الوطنية للدولة ومحك الصدق الوطني للأفراد‏.‏

ومنذ بداية الحرب العالمية الثانية أصبحت لقضية المعلومات وسريتها والسيطرة عليها أولوية‏,‏ وضاعف من ذلك السباق المحموم لانتاج الشفرات المعقدة لإرسال الرسائل المشفرة دون أن تصل إلي يد الاعداء‏.‏ وتعاظم الشعور الوطني العام بأهمية وعي المواطن العادي بأن قاعدة سرية المعلومات هي في الأخير إحدي الضمانات الرئيسية لأمنه ووطنه من الأعداء‏.‏ ومن ثم تنازل المواطنون عن حق الحصول علي المعلومات‏,‏ الذي يكفله لهم أنهم مصدر السلطات‏,‏ للدولة التي تكفل لهم عبر سرية المعلومات الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية وأمنهم الوطني‏.‏

وأثناء الحرب الباردة أصبحت القدرات الاستخبارية للأجهزة الأمنية والسفارات ليست فقط ضرورة دفاعية وإنما مدعاة للتفاخر والدعائية‏,‏ فقدرة الأجهزة علي السطو علي معلومات العدو وحراسة معلومات الوطن كانت مصدرا للكثير من الأساطير الأدبية و الفنية وخاصة السينمائية منها‏,‏ ومن منا لا يذكر العميل‏007,‏ جيمس بوند الذي تم تصويره علي إنه سوبرمان المخابرات الانجليزية علي مدي سنوات طوال‏.‏

غير أن كل هذا التاريخ قد تغير منذ بداية تسعينيات القرن العشرين‏,‏ فمن ناحية أصبحت المنافسة علي الأسواق العالمية تدور بين الشركات العملاقة العابرة للقوميات‏,‏ وهي وإن كانت ترتبط بحكومات الدول الكبري إلا إننا لا يمكننا اعتبارها مماثلة للشركات القومية التي صاحبت الفترة الاستعمارية‏,‏ ومن ثم أصبح عنصر مصلحة المواطن العادي المحجوب عنه المعلومات أصبح غير ذي مضمون‏.‏
ومن ناحية أخري تصاعدت ظاهرة القضايا ذات الطابع الدولي والكوني وتصاعدت معها أدوار المنظمات الدولية علي حساب السيادة القومية مما أحدث تغييرا في الوعي القومي والوطني الذي أصبح يدور الآن في إطار كوكبي‏,‏ 

وقد ساعد علي ذلك ثورة الاتصالات والمعلومات‏,‏ فعلي سبيل المثال فإن برنامج‏'‏ جوجل إيرث‏'‏ وهو برنامج للكرة الأرضية بتفاصيلها علي شبكة الإنترنت أحدث تغييرا جذريا في وعي الأجيال الجديدة حيث يمكنهم أن يروا الكرة الأرضية وقد ازيل من عليها كل الحدود 
السياسية التي تعبر عن الدولة القومية‏,‏ وعلي الرغم من ذلك يستطيع الفرد أن يحدد مسكنه ويضع عليه علامته الخاصة‏.‏

وظني أنه في ظل هذه المتغيرات الكاسحة لا يبدو غريبا أن تظهر ويكيليكس إلي الوجود لتعلن أن ما ساد علي الساحة من تقاليد سياسية ودبلوماسية علي مدي الأعوام السابقة في ظل المطبعة والدولة القومية لايمكن له أن يستمر في ظل الدولة المعولمة والشاشة‏,‏ وأن ما كان مقصودا منه أمن الوطن ورفاهية المواطن أصبح الأن أداة للكذب علي المواطن لضمان تأمين المصالح للشركات العملاقة‏.‏ ولم يكن غريبا أن يضعوا في صدر الفيديو الذي يصور قتل المواطنين العراقيين والصحفيين عبارة من رواية جورج أوريل الشهيرة‏1984‏ وتقول العبارة‏:‏
‏'‏ اللغة السياسية تم تصميمها لتجعل من الأكاذيب ما يبدو صدقا‏,‏ ومن القتل ما يبدو محترما‏,‏ ولتعطي للرياح مظهرا وصلابة‏'‏
وهكذا جري إسقاط القداسة التي أحاطت بالعمل الدبلوماسي ولغته‏,‏ وجرت الإطاحة بسرية المعلومات وأهميتها للوطن وجدواها للأفراد لتتلقي الدولة القومية ضربة جديدة من ضربات العولمة‏.‏
السبت 19 من محرم 1432 هـــــ   25 ديسمبر 2010 السنة 20 العدد 7181




Sunday, December 19, 2010

ويكيليكس....... تاريخ موقع

كلمة ويكي في لغة سكان جزر هاواي تعني السرعة‏,‏ وأول من استخدمها في عالم الكومبيوتر هو المبرمج‏'‏ وورد كننجهام‏'‏ الذي توقف يوما في مطار هونولولو حيث لفت نظره اسم الحافلة التي تتنقل بين مدارج المطار المختلفة‏'‏ الويكي باص‏'.‏ ألهمت الحافلة واسمها كننجهام ليخترع في عام‏1994‏ تقنية في البرمجيات تساعد علي التحرير الجماعي لموقع ما علي الإنترنت وأطلق عليها الويكي‏.‏

أصبحت الويكي من أشهر التقنيات البرمجية المجانية علي الإنترنت وتم استخدامها بنجاح في عدة مواقع بل إنها تكاد تكون التقنية الأم لكل المواقع الإعلامية التفاعلية علي الإنترنت‏.‏ فأهم خصائص تقنية الويكي هي أنها تتيح التحرير الجماعي بالإضاقة والحذف والتعديل والتنسيق لأي حجم من المعلومات من أي مكان‏.‏

ألهمت الويكي جيمي ويلز لتأسيس أشهر دائرة معارف علي الإنترنت‏'‏ ويكيبيديا‏',‏ وقد ادي نجاح الفكرة إلي نشأة مواقع اخري للويكي هدفها توفير مختلف أشكال المعرفة وأدواتها علي الانترنت بالمجان‏,‏ فكان منها‏'‏ ويكي قاموس‏'‏ و‏'‏ ويكي مصدر‏'‏ و‏'‏ويكي جامعة‏'‏ وويكي خرائط وغيرها‏.‏ وقد انتظمت مجموعة كبيرة من هذه‏'‏ الويكيات‏'‏ تحت مظلة واحدة لمنظمة عالمية غير هادفة للربح هي منظمة‏'‏ ويكي ميديا‏'‏ وهدفها تقديم محتوي معلوماتي حر بكافة لغات العالم‏.‏ لكن ظلت هناك مواقع أخري تحمل نفس الاسم العام "ويكي" لكنها تعمل مستقلة مثل ويكي خرائط‏,‏ وموقع‏'‏ ويكيليكس‏'‏ والتي تعني‏'‏ ويكي تسريب‏'.‏

بدأت ويكيليكس عملها علي الإنترنت في عام‏2006‏ ومن البداية اعلن مقدموها أنهم يعملون من خلال شركة صحافة‏'‏ صن شاين برس‏',‏ غير أنهم لم يعلنوا أسماء المؤسسين أو المستشارين إلا لماما‏.‏ فبينما يعلن الموقع في يناير من عام‏2007‏ أن هيئة مستشاريه تبلغ‏22‏ عضوا‏,‏ فإنه يعلن في يونيو من عام‏2009‏ أسماء بعضهم وكان منهم صانع أفلام استرالي هو‏'‏ فيليب آدم‏',‏ ومبرمج شهير لبرامج المصادر المفتوحة هو الأمريكي‏'‏ بين لوري‏',‏ و‏'‏وانج دان‏'‏ الناشط السياسي الصيني المعارض ورئيس الحركة الديمقراطية الصينية‏,‏ والصيني‏'‏ زياو كوينج‏'‏ وهومبرمج أيضا و البرازيلي‏'‏ فرنسيسكوا فريررا‏'‏ الناشط الكاثوليكي المتأثر بحركة لاهوت التحرير ثم يأتي أخيرا‏'‏ جوليان أسانج‏'‏ الذي يظهر اسمه كصحفي ومن مجموعة المستشارين‏.‏

وقد قدمت لك هذه القائمة لتتبين عالمية الحركة‏,‏ وحتي أساعدك علي التفكر في الصورة الشائهة التي تم ترسيخها إعلاميا والتي أظهرت‏'‏ أسانج‏'‏ باعتباره المسئول الأول وربما الوحيد عن الموقع‏.‏ بل أن أسانج نفسه يفسر ذلك بأن الأمر الواقع فرض عليه الظهور كمسئول 
عن الموقع‏,‏ فقد كان يفضل أن تظل الشخصية التي تقف وراء الموقع مجهولة لكنه خشي أن يؤدي إلي إثارة اللغط‏.‏

ومن البداية يظهر علي الموقع ما ينم علي أنه يحارب السرية ويعتبرها الكامنة وراء الفساد والاستبداد علي مستوي العالم‏,‏ ليس فقط فساد الحكومات المستبدة‏,‏ وإنما فساد الحكومات في بلدان العالم الأول التي تعمل متواطئة مع الرأسمالية العالمية والشركات عابرة القوميات‏.‏
وعلي مدي السنوات الثلاث الماضية عمل الموقع كــــ‏'‏ويكي‏'‏ حقيقي‏,‏ أي أنه عمل بطريقة التحرير الجماعي فقد عمد إلي تحفيز الناشطين علي مستوي العالم ودفعهم إلي تحميل ما يصل إليهم من وثائق سرية من أي مكان ويخص اي حكومات‏,‏ وكان شعار الموقع لمدة طويلة هو أن‏'‏ الخبر هو ما يرغب البعض في حجبه عنك فلا تعرفه‏,‏ وما غير ذلك هو إعلان‏'.‏

غير أن هذا الوضع تغير في النصف الثاني من العام الحالي‏,‏ ففي شهر أبريل من العام الحالي قدم الموقع شريط الفيديو الذي يظهر كيف تم إطلاق النار بشكل مباشر علي المدنيين العراقيين والصحفيين من قبل القوات الأمريكية‏,‏ ثم أعقب ذلك نشر وثائق البنتاجون للحرب العراقية‏,‏ ثم وثائق الحرب علي طالبان‏,‏ ثم أخيرا وثائق الخارجية الأمريكية‏.‏

ومنذ أن بدأ الموقع في نشر هذه التسريبات الكبيرة توقف عن استقبال وتحميل وثائق مستخدمي الموقع‏,‏ ومن ثم لم يصبح‏'‏ ويكي‏'‏ وإنما أصبح موقعا إخباريا تقليديا وهو الموقف الذي ربما يدفع أخرين من ثقافة الويكي إلي الابتعاد عن ويكيليكس وتأسيس مواقع جديدة لاستعادة الفكرة‏.‏ ومن ناحية اخري فإن سيطرة حفنة من كبريات الصحف والمواقع الاخبارية العالمية علي الوثائق وتسخيرها لأمكاناتها الضخمة في عرض الوثائق بوسائط مختلفة ومبتكرة أفقد الموقع الأصلي اهميته وهو ما يعني نهاية الموقع لكنه يعني في الوقت ذاته انتشار فكرة التسريب‏.‏

وعندي أن ويكيليكس الموقع والأزمة ستشكل نقطة بداية فارقة في تاريخ العالم‏,‏ فهي من ناحية أحدثت انقلابا في عالم الأخبار وتداولها‏,‏ وهي من ناحية أخري أطلقت الفكر السياسي والقانوني للبحث من جديد في العديد من المسلمات التي عاشت بيننا طويلا لعل أهمها 
المرجعية الأخلاقية والقانونية لسرية المعلومات‏.‏

السبت 12 من محرم 1432 هـــــ   18 ديسمبر 2010 السنة 20 العدد 7174

Saturday, December 11, 2010

ويكيليــكس .......أصل الحكاية


سوف تظل قضية ويكيليكس مفتوحة لمدة طويلة بغض النظر عما سيلحق بالمتحدث باسم موقعها‏,‏ جوليان أسانج‏,‏ الذي قبض عليه بتهمة شخصية لا علاقة لها بقضية النشر العلني لوثائق الخارجية الأمريكية التي زلزلت العالم‏.‏وربما يكون لاستمرار تداعيات القضية في المدي المنظور علاقة بما انتشر من معلومات كثيرة مست قضايا ودولا وشخصيات عديدة حول العالم وفضحت بعضا مما ظنه البعض أنه في أمان من تطفل الجماهير والاعلام المستقل‏.‏
لكن القضية ستستمر إلي مدي بعيد لكونها تمثل محطة كبيرة من محطات صراع أعمق وأشمل بدأ منذ ستينات القرن الماضي حول السيطرة علي فائض القيمة الناتج عن تكنولوجيا المعلومات‏,‏ وتحديدا الصراع حول فوائض انتاج المعلومات وتدفقها‏,‏ فوائض القوة والثروة معا‏.‏
وحتي نفهم المشكلة بوضوح يتعين علينا أن نحدد نقطة بداية تاريخية نبني عليها ما تلاها من تطور في الأحداث‏.‏ ونقطة البداية التي أفضلها هي عام‏1945,‏ ففي يوليو من هذا العام كتب العالم الأمريكي‏'‏ فانفر بوش‏'‏ مقالا في مجلة الأتلانتك بعنوان‏'‏ مثلما نفكر‏',‏ حمل فيه علي الطريقة التقليدية لإنتاج المعلومات في الأبحاث العلمية‏,‏ وانتقد أيضا طريقة تداول المعلومات عبر تكنولوجيا الطباعة ثم أعطي تصورا خياليا عن الطريقة المثلي لإنتاج المعلومات وتدفقها وهو تصور قدر له أن يتحقق فيما تلي ذلك من السنوات فيما عرف بالحاسب الشخصي والميديا الرقمية والإنترنت‏.‏
وقد حدث أول التحولات الكبري عندما تحولت الحاسبات الأولي من مجال حساب الأرقام إلي مجال معالجة البيانات وهو التحول الذي خطا خطوة عملاقة باختراع الترانزستور‏,‏ وهوالتحول الذي أفرز لنا أول جيل من مبرمجي برامج الكمبيوتر‏,‏ هؤلاء الذين سيصبحون فيما بعد القوة الحقيقية في مجال تكنولوجيا المعلومات‏.‏
ومنذ البداية حاولت الحكومة الأمريكية والحكومات الأوروبية التي دخلت في هذا المجال السيطرة علي التكنولوجيا الجديدة وسعت في ذلك إلي دفع الرأسمالية العالمية للاستثمار في هذه التكنولوجيا وعملت علي ضمان عدم تسرب فائض قيمتها للآخرين‏.‏ فقد سعت الحكومات إلي السيطرة علي فائض القوة بينما سعي الرأسماليون إلي السيطرة علي فائض الثروة‏.‏
لم تأت مقاومة هذه النزعة الاحتكارية من الشارع السياسي أو من المستهلكين الجدد‏,‏ لكنها أتت من شريحة مهمة من مبرمجي البرامج‏,‏ تلك الشريحة التي جمعت بين القدرات العقلية النادرة في عالم البرمجيات والرياضيات وبين النزعة الهائلة نحو الحرية والتحرر الفكري والسياسي‏.‏ ومن ثم كان هؤلاء المبرمجون هم أول أثار قضية حرية انتاج المعلومات وتدفقها‏,‏ هؤلاء هم‏'‏ الهاكرز‏'‏ وهو الاسم الذي اختاروه لأنفسهم منذ الخمسينات من القرن العشرين‏,‏ ويشير الاسم إلي سعيهم إلي‏'‏ تمزيق‏'‏ كل أنواع القيود التي تحول بينهم وبين المعرفة‏.‏ ويذكر‏'‏ ستيفن ليفي‏'‏ في كتابه الشهير‏'‏ الهاكرز‏,‏ أبطال ثورة الكمبيوتر‏'‏ والذي نشره عام‏1984‏ أن أهم قيم الهاكرز الأخلاقية هي أن المعلومات يجب أن تكون حرة‏.‏
‏'‏ فالوصول إلي أجهزة الكمبيوتر وأي شيء قد يعلمك شيئا عن الطريقة التي يعمل بها العالم ينبغي أن يكون كاملا وغير محدود‏'‏
نمت ظاهرة الهاكرز وتطور أداؤها بأن اتخذت في عدائها الاستراتيجي لاحتكار المعلومات طريقين‏,‏ الطريق الأول يمكن تعريفه بـ‏'‏المصادر المفتوحة‏'‏ وفيه يتعاون المبرمجون علي مستوي العالم في الانتاج والتطوير الجماعي لأكبر قدر ممكن من البرامج المجانية المماثلة لما تنتجه الشركات العملاقة‏,‏ ولعل أشهر الأمثلة هو انتاج نظام لينوكس المنافس لنظام ويندوز الذي تنتجه شركة مايكروسوفت‏.‏ أما الطريق الثاني فتمثل في اقتحام الشبكات والحاسبات لتحرير المعلومات من سجنها ونشرها للجميع‏.‏
ومع دخول الانترنت في أوائل التسعينات تعقدت الساحة أكثر إذ انضم للمبرمجين الكثيرون من دعاة الحريات ومناهضي العولمة ومناهضي الشركات العملاقة والاحتكارات‏,‏ ومنهم صحفيون وصناع أفلام وكتاب وأدباء‏.‏ وبالنتيجة اتسع مسعي الاقتحام ليشمل ليس فقط المعلومات التقنية لعالم البرمجيات وإنما كافة المعلومات المحجوبة علمية كانت أم سياسية فهي تشكل في النهاية مصدر القوة الأساسي للحكومات والشركات الذي ينبغي طرحه للرأي العام‏.‏ واتسعت طريقة‏'‏ المصادر المفتوحة‏'‏ لتشمل المعلومات في كافة الاتجاهات وفي كافة العلوم‏.‏
وفي عام‏1993‏ بدأ التفكير في تأسيس أول إنسكلوبيديا علي الانترنت‏'‏ الإنتربيديا‏'‏ لتصبح اكبر مصدر مفتوح للمعلومات بكافة لغات البشر‏,‏ وقد صممت ليشترك جميع المستخدمين في كتابتها‏,‏ كما يشتركون في الإفادة منها‏.‏ لقد أصبح الهدف الآن الاستخدام الأقصي لشبكة الانترنت لتجاوز احتكار المعرفة من اي طرف‏.‏ وفي ذات الطريق أطلق استاذ الفلسفة الأمريكي لاري سنجر مشروع‏'‏ نيوبيديا‏'‏ الذي تحول في عام‏2001‏ بالاشتراك مع جيمي ويلز إلي اول‏'‏ ويكي‏',‏ وأطلق عليها موسوعة‏'‏ الويكيبيديا‏'.‏ وعلي مدي السنوات التالية ظهرت في الفضاء الانترنتي عدة‏'‏ ويكيات‏'‏ أخري كان آخرها‏'‏ ويكيليكس‏'‏ التي أحدثت الهزة الأخيرة‏,‏ والتي سأحدثك عنها في المقال القادم‏.‏
السبت 5 من محرم 1432 هـــــ   11 ديسمبر 2010 السنة 20 العدد 7167

Tuesday, December 7, 2010

ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية

مؤلف هذا الكتاب هو المعلم " نقولا بن يوسف بن ناصيف آغا الترك" الشاعر اللبناني المولود بدير القمر عام 1763 م ، وأسرته يونانية الأصل من القسطنطينية ومن ثم جاء لقبه "الترك" وفي بعض المصادر كان يسمى "نقولا الاسطمبولي"
كان المعلم نقولا من المقربين للأمير بشير الشهابي وهوالذي أرسله في عام 1799 إلى مصر للتقرب من الزعماء والأعيان المصريين عشية الحملة الفرنسية على مصر ، وموافاته بالتقارير عن الأحوال بين المصرين والفرنسين ، فهو باختصار كان جاسوس الأمير الشهابي على مصر والحملة، وربما كان الأمير بحاجة إلى المعلومات ليحدد موقفه من دعوة نابليون بونابرت له بالإنضمام لجهود الحملة في السيطرة على الشام. وقد بقى الترك في مصر حتى عام 1804 ثم عاد إلى دير القمر حيث مات عام 1826 ودفن في ساحة كنيسة النبي إلياس للروم الكاثوليك.
وتكمن أهمية هذا الكتاب في كونه الشهادة العربية الثانية بعد شهادة المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي  لشاهد عيان على أحداث الحملة، وهي تختلف عن شهادة الجبرتي من عدة وجوه ، منها اختلاف الهدف من الكتابة ، فكتابة الترك تشكل مضمون ما أرسله من تقارير إلى الأمير بشير الشهابي في حين كانت شهادة الجبرتي خالصة لتأريخ الأحداث.
والكتاب الذي أقدمه لكم مطبوع في باريس عام 1839 وقام بتحقيقه وترجمته إلى الفرنسية "ديجرانج إينيه Desgranges Aine " ، والكتاب يتكون من حوالي 527 صفحة نصفها للمخطوطة الأصلية العربية والنصف الأخر للترجمة الفرنسية من تحقيق عن المؤلف والكتاب.

أنقر على صورة الغلاف أدناه للتحميل

Saturday, December 4, 2010

العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة الحديثة‏

تاريخيا قامت الدولة الحديثة علي أنقاض الدولة الدينية منذ منتصف القرن السابع عشر‏,‏ فقبل ذلك التاريخ كانت هناك ثلاث دوائر لأمبراطوريات دينية أو شبه دينية تحكم العالم‏,‏ ففي الغرب كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وفي أقصي الشرق كانت الإمبراطورية الصينية وفي المنتصف كانت الخلافة الإسلامية وتوابعها‏.‏

وفي عام‏1648‏ أبرمت معاهدة وستفاليا الشهيرة التي أقرت لأول مرة في تاريخ الإنسانية مبدأ سيادة الدول‏,‏ ومن ثم أعتبرت أول معاهدة في العالم الحديث فبعدها انهارت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وبدأت عملية ولادة الدولة القومية الحديثة التي مازلنا نعيش فيها حتي الآن‏.‏

لم يأت هذا التحول التاريخي لفلسفة الحكم كنتيجة لحماقة الحكام السابقين أو رؤي وأحلام فرسان الدولة الحديثة وإنما جاء في سياق تحول أشمل خاضته التجربة الإنسانية منذ اوائل القرن السادس عشر‏.‏ فمنذ ذلك التاريخ حدث تغير حاسم في وعي الإنسان آنذاك كنتيجة للثورة المعرفية التي أنتجتها المطبعة والتي ساعدت علي نشر الأفكار والعلوم الجديدة‏,‏ وكنتيجة لثورة العلم الحديث التي بدأت بثورة في علم الفلك‏,‏ وكنتيجة لثورة الفكر الفلسفي الحديث بدءا من ديكارت‏,‏ وكنتيجة لثورة الإصلاح الديني‏,‏ وكنتيجة لظهور الرأسمالية والثورة الصناعية‏.‏

في خضم هذا التحول الكبير تغيرت الخريطة الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية وتغير موقع الطبقات الاجتماعية وطبيعة علاقتها ببعضها البعض‏,‏ وهو ما أدي في النهاية إلي صياغة عقد اجتماعي حديث قام علي إعادة توزيع السلطة علي المجتمع لتصبح الأمة مصدرا لهذه السلطات بدلا من الدين والكنيسة والملك الإله‏.‏
في هذا الإطار قامت الدولة الحديثة ليس بوصفها الدولة المثالية ولكن باعتبارها النظام الممكن الذي يعبر عما حدث في المجتمع من تغيرات وما حدث في الوعي الإنساني من تطور كنتيجة لثورة المعرفة الطباعية‏.‏

والدولة الحديثة التي نراها الآن ليست هي التي كانت في القرن التاسع عشر ولا حتي القرن العشرين‏,‏ لأنها ببساطة تتطور باستمرار كونها انعكاسا لتطور المجتمع‏,‏ فنظم الحكم الحديثة في حالة صيرورة دائمة تستجيب للمتغيرات الحادثة في المجتمعات وفي الاستجابة ينتج عنها آليات ومؤسسات تؤهل المجتمع لتجاوز الأزمات وفي التعنت ينتج عنها شرور ليس أقلها الحروب المدمرة‏.‏

ومثل هذه المرونة التي تبديها الدولة الحديثة مردها الاحتكام للعقل ولا شيء غير العقل‏,‏ فالدولة لا تحكمها المطلقات السمائية وإنما يحكمها المصالح الدنيوية‏.‏ فهي إذن ليست خيرا ولا شرا وإنما هي الإطار الممكن لإدارة أحوال البشر الدنيوية‏.‏

والقارئ الكريم سيلاحظ أننا نحن المصريين والعرب لم نشارك في نشأة الدولة الحديثة‏,‏ كما لم نشارك في ثورة العلم الحديث‏,‏ لكنها وفدت علينا في أوائل القرن التاسع عشر‏,‏ وأصبحت واقعا في مجتمعاتنا علي مدي القرن العشرين‏.‏ ولئن كانت عدم المشاركة ليست مذمة فإن الانقلاب عليها بعد أن خضنا فيها لأكثر من مائة وخمسين من الأعوام هو الجنون‏,‏ خاصة لو كان هذا الانقلاب لا يقوم علي خبرة تاريخية مماثلة أو تغير حاسم في النموذج المعرفي والعلمي أو في تحول جذري في مجال الانتاج وما يصاحبه من تغيرات جذرية في العلاقات الاجتماعية‏.‏

فالملاحظ أن أزمتنا مع الدولة الحديثة هي في رفضنا لفكرة المرجعية المطلقة للعقل فيما تقوم عليه الدولة من أنظمة قانونية‏,‏ فالمزاج العام لدينا يؤمن بالمرجعية الشاملة للنص الديني كما قرأه وفسره الأقدمون‏,‏ يعتقدون في أن ذلك هو التعبير الأمثل عن الخصوصية الثقافية لمجتمعنا في مقابل العقلانية الغربية‏.‏ وهو الأمر الذي يزيد من اغترابنا عن الجماعة الإنسانية ناهيك عن استبعادنا لأنفسنا من الساحة العلمية بكاملها وانغماسنا في حالة دائمة من الدفاع عن النفس‏.‏

ولئن كان الدين في علاقة ملتبسة مع الدولة الحديثة فقد قمنا نحن بنسج هذا الالتباس في العلاقة كوننا لا نستطيع انتاج دولة منظمة تتعاطي مع العالم الحديث في الوقت الذي نرفض فيه إبداع شكل جديد من العلاقة بين الدين والدولة الحديثة بل والمجتمع الحديث‏.‏ هذا في الوقت الذي نمتلك فيه من التراث الديني العقلاني والخبرات التاريخية العميقة والزخم الحضاري الكثيف ما يؤهلنا أن ننتج نصا ثقافيا قادرا علي حملنا إلي العصر وليكون المرجعية الرحبة التي نتجاوز بها مأزقنا الحالي‏.‏
السبت 28 من ذى الحجة 1431 هــ   4 ديسمبر 2010 السنة 20 العدد 7160

Wednesday, December 1, 2010

من نوادر الكتب...مصباح الساري ونزهة القاري

مؤلف هذا الكتاب هو "إبرهيم خليل افندي الديراني اللبناني" الذي وفد إلى مصر  لدراسة الطب في مدرستها في عام 1837 م. برعاية ووساطة الأمير بشير الشهابي أمير جبل لبنان . وقد مكث فيها للدراسة مدة أربعة سنوات نال بعدها في يونيو من عام 1842  شهادة تجيز له ممارسة الطب والجراحة مختومة من شورى الطب العمومية وممهورة بتوقيع مديرها كلوت بك.  غادر ابرهيم اللبناني بعدها إلى القسطنطية حيث حصل على شهادة أخرى في الطب من مدرستها ثم عاد إلى سوريا وعمل بها طبيبا .وقد ألف كتابه هذا وعنونه (المصباح الساري ونزهة القاري ) و طبعه على نفقته في بيروت عام 1272 هجرية أي عام 1855/56 ميلادية وهو يحتوي على وصف رحلته إلى القاهرة والقسطنطينية.
وأهمية الكتاب تعود إلى كونه من أوائل الكتب العربية التي وصفت مصر القاهرة وسكانها وعوائدها وعمارتها وشوارعها في منتصف القرن التاسع عشر . صحيح أن وصف القاهرة يشكل فقط ما يوازي ربع الكتاب بينما اختص القسطنطينية بما تبقى منه إلا إنه يحوي العديد من الملاحظات الهامة عن الحياة في مصر في منتصف القرن التاسع عشر 

ملاحظة، هذه النسخة من الكتاب تفتقد صفحتي 23،24

للحصول على الكتاب أنقر على صورة الغلاف 

 
   

Saturday, November 27, 2010

مآل الدولة شبه الدينية

زعمت في مقالي السابق أن مشروع الدولة الدينية الذي بدا حاضرا في أفق واقعنا السياسي علي مدي العقود الأربعة الماضية قد بات إلي زوال‏.‏ وحجتي التي قدمتها هي أن المبشرين بهذه الدولة أصبحوا الآن أكثر قناعة باستحالة التطبيق المباشر للمبدأ الأساسي للدولة الدينية وهو مبدأ الحاكمية لله وما يتبعه من البيعة للخليفة صاحب الولاية‏.‏
غير أنني لا أدعي أن سبب مثل هذا التغير في موقف التيارات الفكرية الدينية المختلفة ان مشروع الدولة الحديثة قد حقق مكاسب دفعت أنصار الدولة الدينية إلي إعادة النظر في جدوي مشروعهم‏.‏ فاعتقادي أن السبب في هذا التحول هو إخفاق مشروع الدولة الدينية نفسه في إقناع أحد بجدواه وخيريته‏,‏ بل علي النقيض من ذلك فكل التطبيقات العملية لهذا المشروع بدءا من السودان وانتهاء بأفغانستان أكدت للجميع خطورة استنساخ نظام الحكم من القرن السابع الميلادي وزرعه قسرا في القرن العشرين وما يتلوه‏.‏
التغير في المواقف إذن سببه قناعة بعض مفكريه بعدم صلاحيته في صورته التقليدية وليس في نجاح الدولة الحديثة في غرس نبتتها في المجتمع‏.‏
وعندي أن فشل المشروع الديني وعدم نجاح المشروع الحداثي أدي إلي تبني الغالبية من النخبة موقفا يلتبسه بعض الغموض‏.‏ فآية الدولة الحديثة هي أنها جعلت الحاكمية للشعب‏,‏ فالأمة هي مصدر السلطات‏,‏ والأهم أن مرجعية هذه الأمة هي العقل والعقلانية الكاملة‏,‏ فالمبادئ الحاكمة للدولة تُستمد من الخبرة التاريخية للأمة‏,‏ وربما من الخبرة الإنسانية بمعناها الشامل‏,‏ والحكم في هذه الدولة هو للمؤسسات الدستورية الحديثة التي ينتخبها الشعب ويراقبها‏.‏
مثل هذا التصور الحداثي تم قبوله بدرجة ما من مفكري التيار الإسلامي‏,‏ فهم من ناحية رفضوا الاستبداد المطلق الذي تنطوي عليه فكرة الحاكمية لله‏,‏ وقبلوا بتوزيع السلطات وأن تصبح الأمة هي مصدرها‏,‏ بل وأن تتم استعارة نماذج المؤسسات الحديثة للإدارة‏,‏ لكنهم اشترطوا تقييد المرجعية الفكرية للمواثيق الحاكمة للدولة لتؤول بكاملها إلي النص الديني كبديل للعقلانية المطلقة التي تحكم الدولة الحديثة‏.‏ ليصبح مثل هذا التوجه بمثابة دولة حديثة مشروطة أو بمثابة دولة شبه دينية‏.‏
في المقابل أدي تراجع مشروع الحداثة والدولة الحديثة في مصر إلي تراجع مماثل بين النخبة الحداثية‏,‏ ففي مواجهة المد الديني الذي أصاب المزاج العام في الشارع المصري اتجهت النخبة الحداثية إلي إضفاء بعض من مظاهر الحضور الديني علي الدولة الحديثة التي تحرسها‏.‏ ولعل أشهر هذه التوجهات هو التركيز علي المادة الدستورية الخاصة بدين الدولة والمرجعية التشريعية لها‏,‏ فيما عرف بالمادة الثانية‏.‏
فالذي صاغ المادة الثانية من الدستور ودفع بها‏,‏ لم يكن التيار الإسلامي الذي عرفناه لاحقا‏,‏ وإنما صيغت من داخل الدولة الحديثة التقليدية‏,‏ وقد صيغت بمهارة تجعل "مبادئ" الشريعة وليس النص الديني هو المرجعية الأولي التي يجوز أن تقبل معها مرجعيات أخري‏.‏ فهي إذن محاولة لحل مأزق الدولة الحديثة في مجتمع غارق في التدين البسيط‏.‏
وظني أن الفاعلين في الدولة الحديثة أدركوا لاحقا أن مثل هذا النص يعطي مكسبا غير مباشر للتيار الديني فضلا عن كونه فرصة للتمييز بين المواطنين علي أساس الدين‏.‏ فكانت الإضافة التالية لهم في المادة الأولي هي مبدأ المواطنة‏.‏ ومن ثم إذا كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الدولة فيما يخص مرجعية القوانين فإن المادة الأولي تضع عليها قيودا حداثية فيما يخص المساواة بين المواطنين‏.‏ وهو ما يجعلها دولة شبه حديثة أو دولة دينية مشروطة‏.‏
ولعل هذا ما يفسر لنا الاتفاق الضمني بين الحداثيين في الحكم من ناحية والتيار الديني في عمومه من ناحية أخري علي الإبقاء علي الصيغ الحالية في الدستور‏,‏ فهي تضمن للطرفين الحد الأدني مما يطالبان به‏,‏ وتنزع عنهما معا الاتهامات المسددة لهما‏.‏ فالتيار الديني يستطيع الإدعاء بالتطور الملائم للقرن الحادي والعشرون ويقبل المواثيق القانونية الحالية كونها تحتكم للنص الديني ولهذا يركزعلي الدفاع عن المادة الثانية‏.‏ بينما يستطيع الحداثين الإدعاء بأنهم لم يتخلوا عن الدولة الحديثة ومن ثم يتزايد دفاعهم عن مبدأ المواطنة‏.‏ ومن ثم اتفق الطرفان ضمنيا علي إسقاط كل من تعبير "الدولة الحديثة" و"الدولة الدينية" واستبدالهما معا بتعبير "الدولة المدنية" وهو في رأيي تعبير غامض عن الدولة شبه الحديثة وشبه الدينية في آن واحد‏.‏
إن الموقف الحالي ينطوي علي مأزق مركب لدعاة الدولة الحديثة وأصحاب المشروع الديني‏,‏ وليس أدل علي ذلك من أن الصيغة التي ارتضياها هي صيغة غير مستقرة توفر لكل الأطراف شدها للاتجاه الذي يراه محققا لتصوره‏.‏ ولإن كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الحداثة والمادة الأولي تضع قيودا علي المشروع الديني‏,‏ فإن هذا معناه أنه تم الاحتكام لوضع القيود المتبادلة كبديل لإطلاق الإبداع الفكري والسياسي  وهو ليس بالأمر الصحي‏.‏
وعندي أن البديل هو إطلاق حوار شامل للبحث في المرجعية الحضارية الشاملة التي لا تهمل الدين ولكنها لا تهمل بالقدر نفسه الخبرة التاريخية للأمة وخاصة تجربتها الحداثية‏.‏

 


 السبت 21 من ذى الحجة 1431 هــ   27 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7153

Saturday, November 20, 2010

نهاية مشروع الدولة الدينية

عندما بدأ مشروع الدولة الحديثة في مصر في منتصف القرن التاسع عشر كان هناك شبه اتفاق عام بين النخبة المصرية المؤثرة بأن التحول من مجتمع العصور الوسطي إلي الدولة الحديثة يتم عبر الحداثة في تجربتها الأوروبية‏

‏ ولم يكن في هذه النخب‏,‏ ومعظمها من بيئة ثقافية دينية والكثيرين منهم أزهريون‏,‏ من يستشعر أي تعارض بين التقدم والتدين‏,‏ بل كانت المعادلة المطروحة هي تبني التقدم والعلم والحداثة مع الاحتفاظ بالمثل والتقاليد الاجتماعية والدينية‏.‏ وقد أسس لهذا التصور مفكرون ورجال دولة مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك‏.‏

تعثر مشروع التحديث في القرن التاسع عشر بسبب سياسات الخديو إسماعيل‏,‏ ونجم عن ذلك أول الخلافات العميقة التي طالت النخبة‏,‏ بين تيار التقدم عبر تكوين المؤسسات والدستور والذي كان يمثله شريف باشا أبو الدستور المصري الحديث‏,‏ وتيار التغيير الثوري الذي مثله أحمد عرابي‏.‏ وهو الصراع الذي انتهي بالاحتلال البريطاني لمصر‏.‏

وقد كان من نتائج فشل ثورة عرابي أن إنقسمت النخبة بين فريقين‏,‏ الفريق الأول يري أن طريق التقدم يمر عبر القضية الوطنية التي هي إنهاء الإحتلال وتحقيق الاستقلال بالارتباط بالجامعة الإسلامية وفي قلبها الخلافة العثمانية‏,‏ ومن ثم  يمر طريق التقدم عبر إصلاح الدين‏.‏ أما الفريق الثاني فكان يري أن الاستقلال ينبغي أن يكون كاملا‏,‏ عن الخلافة العثمانية والإنجليز معا‏.‏ ومثل هذا الاستقلال يتحقق بإصلاح الدنيا بقوة العصر الجديد التي هي العلم‏,‏ ومن ثم يكون التقدم الليبرالي هو الطريق‏.‏

وقد تجمعت بعد الحرب العالمية الأولي عدة عوامل ساهمت في حسم اختيار الشارع المصري والنخبة المصرية في تبني نموذج الدولة الحديثة القائمة علي الصيغة الأولي التي ترسخت في القرن التاسع عشر‏,‏ الليبرالية الحديثة في مجتمع إسلامي تقليدي‏,‏ كان هذا مشروع ثورة‏1919‏ الذي تبلور في دستور‏1923‏ والذي حمل داخله تناقضات التجربة المصرية‏.‏

ولكن نفس هذه العوامل وعلي رأسها إلغاء الخلافة العثمانية دفعت بتيار الإصلاح الديني باتجاه أكثر تشددا‏.‏ فبينما كان الرعيل الأول يدعو للمصالحة بين الحداثة والدين‏,‏ جاء المصلحون الجدد بمفاهيم أكثر راديكالية وتبلور لديهم تصور خاص عن المجتمع الإسلامي بوصفه نقيض المجتمع الحديث‏,‏ وهو مايعني رفض الدولة الحديثة ومؤسساتها وتبني الدولة المثال وهي الدولة الدينية‏.‏

وليس من شك أن عجز النخبة المصرية التي قادت ثورة‏1919‏ عن تحقيق الاستقلال الوطني قد أدي إلي زيادة نفوذ أصحاب الدعوة الدينية‏.‏ بل أن هذا الإخفاق ساعد علي زيادة الحضور الديني بشكل ملموس في كافة طبقات المجتمع المصري بمسيحييه ومسلميه‏,‏ خاصة الطبقة المتوسطة‏.‏ وقد صاحب هذا وفي نفس الوقت صعود نجم القومية المصرية المتطرفة التي سرعان ما تحولت إلي قومية شبه إسلامية مثل حزب مصر الفتاة‏.‏

وعندي أن هذا الانقسام بين دعاة الدولة الحديثة ودعاة الدولة الدينية ظل قائما منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتي الآن‏.‏ وعلي مدي هذه الفترة تغير تصور دعاة الدولة الدينية ليصبح أكثر راديكالية‏.‏ فمن الحديث عن الإصلاح الديني‏,‏ إلي الدعوة إلي إصلاح المجتمع عبر دعوته إلي نمط معين من التدين ومظاهره‏,‏ ثم في الأخير الجهاد ضد المجتمع لفرض التدين بالقوة وفرض الدولة الدينية وهو التطور الذي جعل الجماهير تنتبه لخطورة الحكم الديني المباشر‏.‏

وظني أن أهم التطورات التي حدثت في الفترة الأخيرة هو هذا التحول الذي طرأ علي جميع التيارات الفكرية الإسلامية‏,‏ هذا التحول الذي أسقط فيه الكثير من المفكرين الإسلامين فكرة الدولة الدينية من الأساس‏,‏ وقبول معظمهم جوهر الدولة الحديثة‏,‏ وفي قلبها فكرة قيام الحكم علي أساس أن الأمة مصدر السلطات‏,‏ وأن الدولة ينبغي أن تكون قائمة علي مؤسسات مدنية لا سلطة دينية عليها من أي نوع‏.‏

وعلي الرغم من أن هناك اختلاف حول المرجعية الفكرية لبنية القوانين الحاكمة لهذه الدولة الحديثة ‏(أو المدنية‏),‏ فإن الواقع يقول إننا خطونا خطوة كبيرة نحو المستقبل‏.‏ فهذا التحول الكبير في الفكر السياسي للتيار الإسلامي معناه إعلان هزيمة مشروع الدولة الدينية لأول مرة منذ ثمانين عام‏.‏ وهو ما يجعل من استخدام الشعارات الدينية في السياسة فعلا من أفعال الماضي لن يجد ي نفعا في أي معركة سياسية الآن وفي المستقبل‏.‏
السبت 14 من ذى الحجة 1431 هـــــــ   20 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7146

Monday, November 15, 2010

الكتاب الوحيد الباقي من مطبعة الحملة الفرنسية


في الرابع عشر من يونيو عام 1800 ميلادية الموافق الخامس والعشرين من شهر برربال للسنة الثامنة للجمهور الفرنساوية بدأت محاكمة سليمان الحلبي قاتل ساري عسكر الفرنساوية كلهبر (كليبر) وقد انتهت المحاكمة بعد أربعة أيام وسجلت أحداث المحاكمة في كتاب مطبوع على مطبعة الحملة التي كانت أول مطبعة تدخل الأراضي المصرية. وقد طبع باللغات العربية والتركية والفرنسية.

رحل الفرنسيون ومعهم مطبعتهم وضاعت كل المطبوعات التي طبعت عليها باستثناء كتاب واحد هو كتاب المحاكمة الذي جاء بعنوان
مجمع التحريرات المتعلقة 
إلى ماجرى باعلام
ومحاكمة سليمان الحلبي
قاتل صاري عسكر العام كلهبر
      ولا تعود أهمية الكتاب إلى محتواه ، لأن المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي قد نشر نصه الكامل في مؤلفه الشهير "عجائب الأثار في التراجم والأخبار" وإنما تعود أهميته في كونه الوثيقة الوحيدة الباقية والمكتوب على غلافها " بمصر القاهرة ، بمطبعة الجمهور الفرنساوي" . فالكتاب يعد بذلك وثيقة تاريخية كونه أقدم كتاب طبع في مصر وعمره مائتان وعشر سنوات

أنقر على الصورة للحصول على نسخة من الكتاب



Saturday, November 13, 2010

الجبتــانا


'‏الجبتانا‏'‏ هو عنوان لكتاب صدر في مطلع العام الحالي‏,‏ وبعنوان فرعي‏'‏ أسفار التكوين المصرية‏'.‏ ومؤلف الكتاب هو الأستاذ علي علي الألفي الموجه السابق في التربية والتعليم‏.‏ أثار الكتاب وعنوانه اهتمامي‏,‏
وعندما عكفت عليه لقراءته أثار عندي الكثير من الأسئلة وعلامات الدهش‏.‏ فالمؤلف ينسب مادة الكتاب إلي المؤرخ المصري العظيم مانيثون‏,‏ الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد‏.‏ وقد ألف مانيثون عدة مؤلفات فقدت جميعها باستثناء أجزاء من كتابه الأهم عن تاريخ مصر القديم وعنوانه‏'‏ الإيجبتياكا‏',‏ والذي يعتبر أحد أهم مصادر تاريخ مصر القديم حتي يومنا هذا ولذلك يلقب مانيثون بــ‏'‏أبو التاريخ المصري‏'.‏
والأستاذ علي الألفي المؤلف يكاد يكون مؤمنا بأن كتابه‏'‏ الجبتانا‏'‏ هو أسفارالتكوين المصرية كما كتبها مانيتون‏,‏ وله فعلا كتاب مفقود بعنوان‏'‏ الأسفارالمقدسة‏'.‏ وقد أعطي الإيحاء بذلك بأن صدر كتابه بكلمة‏'‏ تحقيق‏',‏ كما أعطاه عنوانا داخليا يقول‏'‏ الأصل اللاهوتي الديموطيقي مانيتون السمنودي برواية الراهب أبيب النقادي‏',‏ وجعل من مهمته كباحث‏'‏ الجمع والتحقيق والمراجعة التاريخية والصياغة العربية‏'.‏
كل هذه العناوين توحي بأنه حقق مادة تاريخية متوافرة لديه‏,‏ لكنك ما أن تبدأ القراءة حتي تكتشف أن هذه المادة التاريخية إن هي إلا رواية شفاهية للراهب‏'‏ أبيب النقادي‏'‏ الذي عاش عمر مديدا من ستينيات القرن التاسع عشر حتي خمسينيات القرن العشرين‏.‏ فالمؤلف يذكر أنه تعرف شاب صغير علي الراهب ومن ثم نقل عنه رواياته الشفاهية التي كان قد توارثها عبر الأجيال منذ زمن مانيثون‏,‏ أي علي مدي واحد وعشرين قرنا من الزمان‏.‏
ومما يجعل الكتاب مدهشا أن المؤلف أخرجه الكتاب علي هيئة الكتاب المقدس فهو مكون من عدة أسفار وكل سفر مكون من عدة إصحاحات‏,‏ وهو يمزج الأساطير المصرية القديمة مزجا ليجعل منها التاريخ الأسطوري لتكوين الجماعة المصرية كما يراها‏,‏ فهو إذن كتاب في الحنين إلي مصر كما يحبها المؤلف‏.‏
وتثير رواية الراهب أبيب الشفاهية قضية مهمة تلك التي تدور حول التراث التاريخي الشفاهي الذي كان لدي المصريين عن تاريخهم القديم‏,‏ وقد اثار هذه القضية الراحل الدكتور حسين فوزي عندما حاول أن يعرف المصادر التي استقي منها مؤرخي القرون الوسطي المسلمين العظام بدءا من ابن عبد الجكم وانتهاءا بابن إياس معلوماتهم عن تاريخ مصر القديمة‏.‏ فقد راعه أن تكون كافة القصص المتداولة عن تاريخ مصر القديم أسطورية وخيالية إلي حد كبير علي الرغم من الحضور الطاغي للحضارة المصرية القديمة علي مدي آلاف السنين‏.‏ ومن ثم ناقش احتمالية القصص التاريخية الشفاهية التي كان يحفظها الأقباط عن تاريخهم القديم‏.‏ والتي كانت في مجملها أسطورية و ملحمية اكثر منها حقائق تاريخية‏,‏ والتي تشكلت عبر مرحلة تاريخية مضطربة أشد الإضطراب امتدت من القرن الرابع الميلادي حتي مجيء العرب‏.‏
ولدينا مؤلف تاريخي للأسقف يوحنا النيقوسي من القرن السابع الميلادي يؤكد ما ذهب إليه حسين فوزي إذ يحتوي كتابه علي بعض شذرات من تاريخ مصر القديم تتميز بالروح الأسطورية رغم احتوائها علي بعض الحقائق التاريخية‏.‏
الجبتانا إذا ليس كتابا في التاريخ ولا يمكن تقيمه تاريخيا‏,‏ لكنه بالرغم من ذلك كتاب شاعري وأسطوري في حب مصر‏,‏ بل لعله غارق في غرامه بمصريته‏.‏ وهو يقدم مصر القديمة بكلمات حديثة تداخل فيها ما ترسخ في الوجدان المصري من ثقافات عبرت علي الكيان المصري يونانية وعربية‏,‏ مسيحية وإسلامية وهو عندي أحد أشكال التعبير عن أزمة الهوية التي نعانيها منذ عقود‏.‏
لقد أصبحنا بحاجة شديدة لتمثل تاريخنا بمراحله جميعها بشكل متوازن وواقعي لا يغلب فيه حقبة علي أخري وتختزل فيه فترات لصالح فترات أخري‏.‏ فنحن بحاجة إلي استكشاف الذات التاريخية وليس إلي اختراعها اختراعا‏.‏
السبت 7 من ذى الحجة 1431 هـــــــ   13 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7139

Saturday, November 6, 2010

متحف الفن الإسلامي‏...‏ بالتوقيت الأوروبي

 

لمتاحف الآثار أهمية كبيرة في كل مكان في العالم‏,‏ وهي إذ تحتوي علي ما تركه الأقدمون لنا من أثار حياتهم تعيننا علي أن نفهم تاريخهم وتاريخنا‏,‏ أصلهم وأصلنا‏,‏ وتساهم في تعميق وعينا بجذورنا الإنسانية‏.‏
ولمتاحف الآثار ما هو أكثر أهمية من ذلك‏,‏ فهي تشكل أحد رموز الوطن‏,‏ بل إنها في الأساس احدي منتجات الدولة القومية الحديثة حيث تشكل مع الراية‏(‏ العلم‏)‏ والسلام الوطني رموزا وطنية يتشكل بها الوجدان الوطني لأبنائه‏.‏ ولهذا السبب لا تجد في العالم كله دولة تتهاون مع أي إساءة لرايتها او نشيدها الوطني‏,‏ كما تتسابق كافة الدول في العناية بمتاحفها الوطنية التي تحتوي آثارها وتاريخها‏.‏
ولأن مصر بلد صناعته التاريخ‏,‏ ولأن أجدادنا وعلي مدي التاريخ احترفوا صناعة الحياة وأدواتها‏,‏ فإنهم تركوا لنا تراثا أثريا لا مثيل له في العالم كله‏.‏ فعلي مدي أكثر من سبعة آلاف عام تركوا لنا ما يسمح بإنشاء متحف وطني كبير في كل محافظة من محافظات مصر‏,‏ ليصبح مدرسة حقيقية للوجدان الوطني علي كل بقعة من بقاع الوطن‏.‏
لكننا اخترنا أن نستسلم لتفتيت تاريخنا الوطني إلي حقب تاريخية منقطعة الصلة عن بعضها البعض‏,‏ وأسسنا علي ذلك أن تكون متاحفنا انعكاسا لوعينا التاريخي المفتت والمأزوم‏.‏ فقد أسسنا لمتحف الآثار المصرية القديمة‏,‏ آخر لآثار المرحلة اليونانية الرومانية وثالثا للفن القبطي ورابعا للفن الإسلامي‏.‏ ورسخنا في أذهان العامة والمتعلمين فكرة متحف‏'‏ الأنتيكات‏',‏ وربطنا دون أن ندري بين الهوية الدينية والأثار الوطنية‏.‏
بل إننا ذهبنا إلي ما هو أبعد من هذا‏,‏ ففي الوقت الذي أهملنا فيه إثراء الوعي الوطني لأطفالنا وشبابنا و جماهيرنا بأثارنا وتراثنا في متاحفه المغلقة والمفتوحة‏,‏ سري في وعينا دون أن ندري أن هذه الآثار ما هي إلا أدوات سياحية مهمتها جلب المنافع الاقتصادية‏,‏ ومن ثم يكون التركيز علي الاهتمام بها هو المحافظة عليها حتي تستمر في در الأرباح‏,‏ والاهتمام بزائرها الذي هو السائح الأجنبي والعمل علي راحته‏.‏
ولأن لدينا ازمة في الوعي التاريخي‏,‏ ولأن لدينا أزمة في تمثل الدولة الوطنية الحديثة‏,‏ فالنتيجة الموضوعية هي فقدان الوعي الأثري والمتحفي بالكلية‏,‏ يستوي في ذلك المتعلمون وغير المتعلمين‏,‏ بل ويطول‏,‏ وللأسف الشديد‏,‏ المسئولين عن هذه المتاحف‏,‏ ويبدو أنهم يظنون أنهم يحرسون مخازن للأنتيكات باهظة الثمن‏.‏ وهذا ما اختبرته شخصيا في زيارتي الأخيرة لمتحف الفن الإسلامي‏.‏
فقد ذهبت مع البعض إلي المتحف ظهر يوم الجمعة الموافق‏30‏ أكتوبر‏,‏ كنا ممتلئين شغفا وحماسا لمشاهدة ما قد حجب عنا لمدة ثماني سنوات كاملة‏,‏ أكثر من مائة ألف قطعة أثرية بعضها لا مثيل له في العالم‏,‏ وتحكي جزءا مهما من تاريخ أسلافنا فيما تركوه لنا‏.‏ ولأننا نعرف كما يعرف الكثيرون مواعيد الزيارة أيام الجمع‏,‏ فقد وصلنا أمام المتحف في تمام الساعة الواحدة بعد الظهر وهو موعد فتح أبواب المتحف للفترة المسائية‏.‏
كان باب المتحف مغلقا وقد بدأ الزوار المصريون والأجانب يتوافدون أمامه حتي ملأوا الرصيف‏,‏ مرت عشر دقائق دون أن يفتح أحد الباب عندما توجهت لأفراد الأمن علي البوابة الجانبية للاستفسار إن كان هناك مشكلة‏.‏ وكانت المشكلة ببساطة أن الموظف المسئول قد ذهب لصلاة الجمعة وأخذ معه مفتاح البوابة‏!.‏
شئ غريب وغير مفهوم فالمساجد والجوامع حول المتحف بالعشرات وبعضها علي بعد امتار من المتحف‏,‏ والصلاة قد انتهت في كافة الجوامع قبل أربعين دقيقة علي الأقل‏,‏ لكن الموظف لم يظهر إلا في الواحدة والنصف بعد أن تكدس الناس علي الرصيف وجلس بعضهم عليه من التعب‏.‏
فتحت البوابة لندخل‏,‏ ما هذ الجيش من الموظفين والعمال ورجال الأمن؟ وما هذه الطريقة التي يتعاملون بها مع رواد المتحف؟‏,‏ والتي أقل ما يقال عنها أنها معاملة خشنة وفوضوية‏.‏ تكدس تسبب فيه التأخير في فتح الباب يعقبه تعامل يجعل مني ومنك مواطنا مشكوكا فيه‏,‏ ربما ترغب في الدخول بغير تذكرة‏!!,‏ أو تهريب كاميرا‏!!.‏
نطوف في المتحف بآثاره الجميلة‏(‏ بعض الآثار التي كانت معروضة سابقا لم أعد أعرف مكانها بعد التطوير‏).‏ كنت أحدث صحبتي عن بعضها فانضم إلينا مواطن مصري جميل يصطحب أطفاله معه ليعرفهم أثار بلدهم‏,‏ وفجأة يظهر أحد الموظفين ليسألني إن كنت مرشدا سياحيا؟‏!,‏ ففي بلدنا لا يعرف التاريخ والأثار إلا المرشد السياحي‏!!.‏ أثرت أن أشرح أن هذه زوجتي وهذه صديقتنا وهذا الرجل أخي المواطن المصري الجميل الذي تعرفت عليه للتو‏,‏ فهل هذا بحاجة لمثل هذا التدخل الفج من موظف تفشل إدارته في تنظيم دخول مائة فرد إلي المتحف في الميعاد المقرر؟‏.‏
من الواضح إننا لسنا بحاجة لتطوير فترينات العرض لمقتنياتنا الأثرية لتبدو جميلة‏,‏ نحن بحاجة ماسة إلي تدريب وتعليم هؤلاء الذين عهدنا إليهم الحفاظ علي هذه المقتنيات علي كيفية التعامل مع زوار المتحف‏.‏ إننا بحاجة إلي تعليم هؤلاء المسئولين ما الذي يعنيه المتحف والأثر والمواطن‏.‏ فعلي باب المتحف المغلق سأل أحد الأجانب أخر عن موعد فتح باب المتحف فأجابه باسما‏,‏ بالتوقيت المصري أم بالتوقيت الأوروبي‏.‏
السبت 29 ذى القعدة 1431 هـــــــ   6 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7132

Wednesday, November 3, 2010

أين الحكمة....... قد فقدنا المعرفة

معادلة بسيطة تحكم تقدم الأفراد والشعوب‏,‏ وهي معادلة حاكمة لا تتغير بتغير الجنس أو اللغة أو العرق‏,‏ فهي قائمة وصحيحة لأي إنسان طالما هو صحيح الجسد ويملك حواسه الطبيعية الخمس وأيضا يملك عقلا سليما قادرا علي الإدراك‏.‏

وتبدأ الخطوة الأولي في المعادلة بتراكم البيانات‏,‏ وعندما يكتشف الإنسان العلاقات القائمة بين تلك البيانات تتحول إلي معلومات‏,‏ والخطوة الثانية تحدث عندما تترابط هذه المعلومات في سياقات ودروب عقلية مختلفة‏,‏ أدبية وتاريخية وعلمية‏,‏ فتتحول إلي معرفة‏,‏ والخطوة الثالثة تحدث عندما تتكاثف المعارف وتندمج ليشكل منها الإنسان خلاصة الحكمة التي تقود الإنسان في طريق التقدم‏.‏
 

الحكمة إذن‏,‏ ليست إلهاما أو رؤي تتراءي‏,‏ فهي أولا‏,‏ نتاج لجهد وتحصيل لكل ما يمكن الحصول عليه من معلومات ومعارف‏.‏ وهي ثانيا‏,‏ تراكم لعدة عمليات عقلية متاحة لكل عقل إنسان إن توفر له أن يختبرها ويتعلمها‏,‏ والحكمة ثالثا‏,‏ تحتاج إلي مهارات عقلية يمكن تعلمها‏,‏ ويمكن نشرها في المجتمع إن قررنا تدريب أبنائنا علي التفكير العقلاني الناقد‏.‏
 

وإن شئت ان تري لذلك مثالا فحاول أن تتحري كم الدراسات والنظريات والتطبيقات العملية التي قام بها علماء النفس والتربية في العالم المتقدم سعيا للوصول لأحسن سبل التفكير التي تعظم من تراكم البيانات وتكامل المعلومات وجدة المعارف ونقاء الحكمة‏.‏ نجحوا أو لم ينجحوا في الوصول إلي أحسن النتائج‏,‏ ليس هذا هو المهم‏,‏ فالأهم أنهم اختاروا الطريق الصعب الذي هو السعي نحو المعرفة والجرأة علي البحث عن الحكمة الضائعة‏,‏ فهما سبيل التقدم‏,‏ فكانوا هم‏,‏ قياسا للأمم الأخري أكثر تقدما وقوة‏.‏
 

بل إن كثرة المعلومات وزيادة المعارف قد أديا عندهم إلي الشكوي من أنهما تسببا في ضياع الحكمة‏,‏ فهذا ما اشتكي منه تي إس إيليوت‏,‏ الشاعر الأمريكي الانجليزي الأصل‏,‏ ففي قصيدة له نشرها عام‏1936‏ بعنوان‏'‏ الصخرة‏'‏ ينعي إليوت الحياة التي أضعناها في العيش‏,‏ والحكمة التي ضاعت في فيض المعارف‏,‏ يقول إليوت‏:‏
أين هي الحياة التي فقدناها في المعيشة؟
أين هي الحكمة التي فقدناها في المعرفة؟
أين هي المعرفة التي فقدناها في المعلومات؟
هكذا ينعي الشاعر في مجتمع المعرفة ضياع الحكمة بسبب تراكم المعارف وتعددها‏,‏ وأغلب الظن ان إليوت كان رافضا لتشرذم العلوم إلي تخصصات دقيقة أضاعت نكهة الحياة وأفرغتها من معناها‏.‏
 

ولئن كانت حالة الغرب هي الشكوي من ضياع الحكمة لغزارة المعرفة‏,‏ فإن حالتنا هي ادعاء الحكمة دون الحاجة للمعرفة‏,‏ هكذا نتغني منذ قرون بأننا نملك الحكمة الخالصة التي وهبها الله إيانا دون الحاجة إلي تعب التفكير والملاحظة‏,‏ فكل ما علينا هو التحصيل والمذاكرة‏.‏ هكذا كنا لقرون إلي ان أصبحنا فوجدنا أنفسنا ضعفاء ومتخلفين‏,‏ لأنه إن كانت معادلة التقدم متاحة بيولوجيا للجميع‏,‏ فإن المعوق الوحيد لهذه المعادلة هو ثقافي واجتماعي‏.‏ وإن شئت دليلا عليك أن تطالع هذا المشهد الأسيف الشهير الذي يصف فيه الشيخ الجبرتي انبهاره بما رآه‏,‏ وهوالعالم العلامة والأديب الأريب‏,‏ في المجمع العلمي للحملة الفرنسية من علوم وأفكار وآلات لم تخطر له علي بال‏.‏
 

وقد جاءت الصدمة بالصحوة‏,‏ لكنها لم تكن صحوة البحث عن المعرفة والحكمة وإنما كانت صحوة البحث عن النتائج التقنية للمعارف‏.‏ فمنذ أن بدأنا تجربة التحديث في بلادنا كانت أعين أولي الأمر علي الآلات والمهنيين المهرة‏.‏ كان سعينا هو استيراد التكنولوجيا وليس المعرفة‏.‏
 

فالمطالع لجداول بعثاتنا التعليمية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين سوف يجد هذا السعي نحو العلوم التقنية والإحجام شبه التام عن العلوم البحتة والفلسفة‏,‏ حتي ان صدمة الفلسفة جاءت في عام‏1926‏ عندما كتب الدكتور طه حسين كتابه الشعر الجاهلي الذي ذكر فيه أول استخدام لمنهج فلسفي في بحث أدبي‏,‏ ويا لها من صدمة ويا له من رد فعل‏.‏
 

والمتابع لأحوال التعليم في جامعاتنا منذ أن أصبحت مجانية ومتاحة للجميع‏,‏ فسيجد نفس الميل لدي المجتمع والدولة‏,‏ الا وهو السعي إلي الكليات التقنية التي أطلقنا عليها كليات القمة‏,‏ وهي كليات الطب والصيدلة والهندسة وإدارة الأعمال‏,‏ لتأتي في ذيلها كليات العلم المهملة‏,‏ العلوم والرياضيات والفلسفة والعلوم الإنسانية‏.‏ كما سيكتشف بسهولة كيف أصبحنا أقل إنتاجا للمعرفة في كافة المجالات‏,‏ وبتنا أكثر بعدا عن الحكمة كمسعي‏.‏ وحولنا الجامعة من قلعة علمية دينها العقل إلي رواق يتقاطر فيه الطلاب للذكر والتذكر والحفظ‏.‏
 

إن مشكلتنا مع التقدم واضحة‏,‏ فإننا لم نراكم شيئا من المعارف ولم نسع يوما إلي الحكمة من خلال ما راكمنا‏,‏ فقد قررنا الاستقالة من الإثنين‏.‏ وتفرغنا للتأكيد بأن كل ما أنتجه‏,‏ وما سينتجه‏,‏ الأخرون من معارف وحكم هو متضمن في ثقافتنا وكل ما علينا أن نعيد اكتشافه بمقاييسنا‏,‏ فلم نراكم معرفة‏,‏ وفقدنا الحكمة‏.‏


31/10/2010