عندما بدأ مشروع الدولة الحديثة في مصر في منتصف القرن التاسع عشر كان هناك شبه اتفاق عام بين النخبة المصرية المؤثرة بأن التحول من مجتمع العصور الوسطي إلي الدولة الحديثة يتم عبر الحداثة في تجربتها الأوروبية
ولم يكن في هذه النخب, ومعظمها من بيئة ثقافية دينية والكثيرين منهم أزهريون, من يستشعر أي تعارض بين التقدم والتدين, بل كانت المعادلة المطروحة هي تبني التقدم والعلم والحداثة مع الاحتفاظ بالمثل والتقاليد الاجتماعية والدينية. وقد أسس لهذا التصور مفكرون ورجال دولة مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك.
تعثر مشروع التحديث في القرن التاسع عشر بسبب سياسات الخديو إسماعيل, ونجم عن ذلك أول الخلافات العميقة التي طالت النخبة, بين تيار التقدم عبر تكوين المؤسسات والدستور والذي كان يمثله شريف باشا أبو الدستور المصري الحديث, وتيار التغيير الثوري الذي مثله أحمد عرابي. وهو الصراع الذي انتهي بالاحتلال البريطاني لمصر.
وقد كان من نتائج فشل ثورة عرابي أن إنقسمت النخبة بين فريقين, الفريق الأول يري أن طريق التقدم يمر عبر القضية الوطنية التي هي إنهاء الإحتلال وتحقيق الاستقلال بالارتباط بالجامعة الإسلامية وفي قلبها الخلافة العثمانية, ومن ثم يمر طريق التقدم عبر إصلاح الدين. أما الفريق الثاني فكان يري أن الاستقلال ينبغي أن يكون كاملا, عن الخلافة العثمانية والإنجليز معا. ومثل هذا الاستقلال يتحقق بإصلاح الدنيا بقوة العصر الجديد التي هي العلم, ومن ثم يكون التقدم الليبرالي هو الطريق.
وقد تجمعت بعد الحرب العالمية الأولي عدة عوامل ساهمت في حسم اختيار الشارع المصري والنخبة المصرية في تبني نموذج الدولة الحديثة القائمة علي الصيغة الأولي التي ترسخت في القرن التاسع عشر, الليبرالية الحديثة في مجتمع إسلامي تقليدي, كان هذا مشروع ثورة1919 الذي تبلور في دستور1923 والذي حمل داخله تناقضات التجربة المصرية.
ولكن نفس هذه العوامل وعلي رأسها إلغاء الخلافة العثمانية دفعت بتيار الإصلاح الديني باتجاه أكثر تشددا. فبينما كان الرعيل الأول يدعو للمصالحة بين الحداثة والدين, جاء المصلحون الجدد بمفاهيم أكثر راديكالية وتبلور لديهم تصور خاص عن المجتمع الإسلامي بوصفه نقيض المجتمع الحديث, وهو مايعني رفض الدولة الحديثة ومؤسساتها وتبني الدولة المثال وهي الدولة الدينية.
وليس من شك أن عجز النخبة المصرية التي قادت ثورة1919 عن تحقيق الاستقلال الوطني قد أدي إلي زيادة نفوذ أصحاب الدعوة الدينية. بل أن هذا الإخفاق ساعد علي زيادة الحضور الديني بشكل ملموس في كافة طبقات المجتمع المصري بمسيحييه ومسلميه, خاصة الطبقة المتوسطة. وقد صاحب هذا وفي نفس الوقت صعود نجم القومية المصرية المتطرفة التي سرعان ما تحولت إلي قومية شبه إسلامية مثل حزب مصر الفتاة.
وعندي أن هذا الانقسام بين دعاة الدولة الحديثة ودعاة الدولة الدينية ظل قائما منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتي الآن. وعلي مدي هذه الفترة تغير تصور دعاة الدولة الدينية ليصبح أكثر راديكالية. فمن الحديث عن الإصلاح الديني, إلي الدعوة إلي إصلاح المجتمع عبر دعوته إلي نمط معين من التدين ومظاهره, ثم في الأخير الجهاد ضد المجتمع لفرض التدين بالقوة وفرض الدولة الدينية وهو التطور الذي جعل الجماهير تنتبه لخطورة الحكم الديني المباشر.
وظني أن أهم التطورات التي حدثت في الفترة الأخيرة هو هذا التحول الذي طرأ علي جميع التيارات الفكرية الإسلامية, هذا التحول الذي أسقط فيه الكثير من المفكرين الإسلامين فكرة الدولة الدينية من الأساس, وقبول معظمهم جوهر الدولة الحديثة, وفي قلبها فكرة قيام الحكم علي أساس أن الأمة مصدر السلطات, وأن الدولة ينبغي أن تكون قائمة علي مؤسسات مدنية لا سلطة دينية عليها من أي نوع.
وعلي الرغم من أن هناك اختلاف حول المرجعية الفكرية لبنية القوانين الحاكمة لهذه الدولة الحديثة (أو المدنية), فإن الواقع يقول إننا خطونا خطوة كبيرة نحو المستقبل. فهذا التحول الكبير في الفكر السياسي للتيار الإسلامي معناه إعلان هزيمة مشروع الدولة الدينية لأول مرة منذ ثمانين عام. وهو ما يجعل من استخدام الشعارات الدينية في السياسة فعلا من أفعال الماضي لن يجد ي نفعا في أي معركة سياسية الآن وفي المستقبل.
السبت 14 من ذى الحجة 1431 هـــــــ 20 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7146
السبت 14 من ذى الحجة 1431 هـــــــ 20 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7146
No comments:
Post a Comment