تاريخيا قامت الدولة الحديثة علي أنقاض الدولة الدينية منذ منتصف القرن السابع عشر, فقبل ذلك التاريخ كانت هناك ثلاث دوائر لأمبراطوريات دينية أو شبه دينية تحكم العالم, ففي الغرب كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وفي أقصي الشرق كانت الإمبراطورية الصينية وفي المنتصف كانت الخلافة الإسلامية وتوابعها.
وفي عام1648 أبرمت معاهدة وستفاليا الشهيرة التي أقرت لأول مرة في تاريخ الإنسانية مبدأ سيادة الدول, ومن ثم أعتبرت أول معاهدة في العالم الحديث فبعدها انهارت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وبدأت عملية ولادة الدولة القومية الحديثة التي مازلنا نعيش فيها حتي الآن.
لم يأت هذا التحول التاريخي لفلسفة الحكم كنتيجة لحماقة الحكام السابقين أو رؤي وأحلام فرسان الدولة الحديثة وإنما جاء في سياق تحول أشمل خاضته التجربة الإنسانية منذ اوائل القرن السادس عشر. فمنذ ذلك التاريخ حدث تغير حاسم في وعي الإنسان آنذاك كنتيجة للثورة المعرفية التي أنتجتها المطبعة والتي ساعدت علي نشر الأفكار والعلوم الجديدة, وكنتيجة لثورة العلم الحديث التي بدأت بثورة في علم الفلك, وكنتيجة لثورة الفكر الفلسفي الحديث بدءا من ديكارت, وكنتيجة لثورة الإصلاح الديني, وكنتيجة لظهور الرأسمالية والثورة الصناعية.
في خضم هذا التحول الكبير تغيرت الخريطة الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية وتغير موقع الطبقات الاجتماعية وطبيعة علاقتها ببعضها البعض, وهو ما أدي في النهاية إلي صياغة عقد اجتماعي حديث قام علي إعادة توزيع السلطة علي المجتمع لتصبح الأمة مصدرا لهذه السلطات بدلا من الدين والكنيسة والملك الإله.
في هذا الإطار قامت الدولة الحديثة ليس بوصفها الدولة المثالية ولكن باعتبارها النظام الممكن الذي يعبر عما حدث في المجتمع من تغيرات وما حدث في الوعي الإنساني من تطور كنتيجة لثورة المعرفة الطباعية.
والدولة الحديثة التي نراها الآن ليست هي التي كانت في القرن التاسع عشر ولا حتي القرن العشرين, لأنها ببساطة تتطور باستمرار كونها انعكاسا لتطور المجتمع, فنظم الحكم الحديثة في حالة صيرورة دائمة تستجيب للمتغيرات الحادثة في المجتمعات وفي الاستجابة ينتج عنها آليات ومؤسسات تؤهل المجتمع لتجاوز الأزمات وفي التعنت ينتج عنها شرور ليس أقلها الحروب المدمرة.
ومثل هذه المرونة التي تبديها الدولة الحديثة مردها الاحتكام للعقل ولا شيء غير العقل, فالدولة لا تحكمها المطلقات السمائية وإنما يحكمها المصالح الدنيوية. فهي إذن ليست خيرا ولا شرا وإنما هي الإطار الممكن لإدارة أحوال البشر الدنيوية.
والقارئ الكريم سيلاحظ أننا نحن المصريين والعرب لم نشارك في نشأة الدولة الحديثة, كما لم نشارك في ثورة العلم الحديث, لكنها وفدت علينا في أوائل القرن التاسع عشر, وأصبحت واقعا في مجتمعاتنا علي مدي القرن العشرين. ولئن كانت عدم المشاركة ليست مذمة فإن الانقلاب عليها بعد أن خضنا فيها لأكثر من مائة وخمسين من الأعوام هو الجنون, خاصة لو كان هذا الانقلاب لا يقوم علي خبرة تاريخية مماثلة أو تغير حاسم في النموذج المعرفي والعلمي أو في تحول جذري في مجال الانتاج وما يصاحبه من تغيرات جذرية في العلاقات الاجتماعية.
فالملاحظ أن أزمتنا مع الدولة الحديثة هي في رفضنا لفكرة المرجعية المطلقة للعقل فيما تقوم عليه الدولة من أنظمة قانونية, فالمزاج العام لدينا يؤمن بالمرجعية الشاملة للنص الديني كما قرأه وفسره الأقدمون, يعتقدون في أن ذلك هو التعبير الأمثل عن الخصوصية الثقافية لمجتمعنا في مقابل العقلانية الغربية. وهو الأمر الذي يزيد من اغترابنا عن الجماعة الإنسانية ناهيك عن استبعادنا لأنفسنا من الساحة العلمية بكاملها وانغماسنا في حالة دائمة من الدفاع عن النفس.
ولئن كان الدين في علاقة ملتبسة مع الدولة الحديثة فقد قمنا نحن بنسج هذا الالتباس في العلاقة كوننا لا نستطيع انتاج دولة منظمة تتعاطي مع العالم الحديث في الوقت الذي نرفض فيه إبداع شكل جديد من العلاقة بين الدين والدولة الحديثة بل والمجتمع الحديث. هذا في الوقت الذي نمتلك فيه من التراث الديني العقلاني والخبرات التاريخية العميقة والزخم الحضاري الكثيف ما يؤهلنا أن ننتج نصا ثقافيا قادرا علي حملنا إلي العصر وليكون المرجعية الرحبة التي نتجاوز بها مأزقنا الحالي.
السبت 28 من ذى الحجة 1431 هــ 4 ديسمبر 2010 السنة 20 العدد 7160
No comments:
Post a Comment