سوف تظل قضية ويكيليكس مفتوحة لمدة طويلة بغض النظر عما سيلحق بالمتحدث باسم موقعها, جوليان أسانج, الذي قبض عليه بتهمة شخصية لا علاقة لها بقضية النشر العلني لوثائق الخارجية الأمريكية التي زلزلت العالم.وربما يكون لاستمرار تداعيات القضية في المدي المنظور علاقة بما انتشر من معلومات كثيرة مست قضايا ودولا وشخصيات عديدة حول العالم وفضحت بعضا مما ظنه البعض أنه في أمان من تطفل الجماهير والاعلام المستقل.
لكن القضية ستستمر إلي مدي بعيد لكونها تمثل محطة كبيرة من محطات صراع أعمق وأشمل بدأ منذ ستينات القرن الماضي حول السيطرة علي فائض القيمة الناتج عن تكنولوجيا المعلومات, وتحديدا الصراع حول فوائض انتاج المعلومات وتدفقها, فوائض القوة والثروة معا.
وحتي نفهم المشكلة بوضوح يتعين علينا أن نحدد نقطة بداية تاريخية نبني عليها ما تلاها من تطور في الأحداث. ونقطة البداية التي أفضلها هي عام1945, ففي يوليو من هذا العام كتب العالم الأمريكي' فانفر بوش' مقالا في مجلة الأتلانتك بعنوان' مثلما نفكر', حمل فيه علي الطريقة التقليدية لإنتاج المعلومات في الأبحاث العلمية, وانتقد أيضا طريقة تداول المعلومات عبر تكنولوجيا الطباعة ثم أعطي تصورا خياليا عن الطريقة المثلي لإنتاج المعلومات وتدفقها وهو تصور قدر له أن يتحقق فيما تلي ذلك من السنوات فيما عرف بالحاسب الشخصي والميديا الرقمية والإنترنت.
وقد حدث أول التحولات الكبري عندما تحولت الحاسبات الأولي من مجال حساب الأرقام إلي مجال معالجة البيانات وهو التحول الذي خطا خطوة عملاقة باختراع الترانزستور, وهوالتحول الذي أفرز لنا أول جيل من مبرمجي برامج الكمبيوتر, هؤلاء الذين سيصبحون فيما بعد القوة الحقيقية في مجال تكنولوجيا المعلومات.
ومنذ البداية حاولت الحكومة الأمريكية والحكومات الأوروبية التي دخلت في هذا المجال السيطرة علي التكنولوجيا الجديدة وسعت في ذلك إلي دفع الرأسمالية العالمية للاستثمار في هذه التكنولوجيا وعملت علي ضمان عدم تسرب فائض قيمتها للآخرين. فقد سعت الحكومات إلي السيطرة علي فائض القوة بينما سعي الرأسماليون إلي السيطرة علي فائض الثروة.
لم تأت مقاومة هذه النزعة الاحتكارية من الشارع السياسي أو من المستهلكين الجدد, لكنها أتت من شريحة مهمة من مبرمجي البرامج, تلك الشريحة التي جمعت بين القدرات العقلية النادرة في عالم البرمجيات والرياضيات وبين النزعة الهائلة نحو الحرية والتحرر الفكري والسياسي. ومن ثم كان هؤلاء المبرمجون هم أول أثار قضية حرية انتاج المعلومات وتدفقها, هؤلاء هم' الهاكرز' وهو الاسم الذي اختاروه لأنفسهم منذ الخمسينات من القرن العشرين, ويشير الاسم إلي سعيهم إلي' تمزيق' كل أنواع القيود التي تحول بينهم وبين المعرفة. ويذكر' ستيفن ليفي' في كتابه الشهير' الهاكرز, أبطال ثورة الكمبيوتر' والذي نشره عام1984 أن أهم قيم الهاكرز الأخلاقية هي أن المعلومات يجب أن تكون حرة.
' فالوصول إلي أجهزة الكمبيوتر وأي شيء قد يعلمك شيئا عن الطريقة التي يعمل بها العالم ينبغي أن يكون كاملا وغير محدود'
نمت ظاهرة الهاكرز وتطور أداؤها بأن اتخذت في عدائها الاستراتيجي لاحتكار المعلومات طريقين, الطريق الأول يمكن تعريفه بـ'المصادر المفتوحة' وفيه يتعاون المبرمجون علي مستوي العالم في الانتاج والتطوير الجماعي لأكبر قدر ممكن من البرامج المجانية المماثلة لما تنتجه الشركات العملاقة, ولعل أشهر الأمثلة هو انتاج نظام لينوكس المنافس لنظام ويندوز الذي تنتجه شركة مايكروسوفت. أما الطريق الثاني فتمثل في اقتحام الشبكات والحاسبات لتحرير المعلومات من سجنها ونشرها للجميع.
ومع دخول الانترنت في أوائل التسعينات تعقدت الساحة أكثر إذ انضم للمبرمجين الكثيرون من دعاة الحريات ومناهضي العولمة ومناهضي الشركات العملاقة والاحتكارات, ومنهم صحفيون وصناع أفلام وكتاب وأدباء. وبالنتيجة اتسع مسعي الاقتحام ليشمل ليس فقط المعلومات التقنية لعالم البرمجيات وإنما كافة المعلومات المحجوبة علمية كانت أم سياسية فهي تشكل في النهاية مصدر القوة الأساسي للحكومات والشركات الذي ينبغي طرحه للرأي العام. واتسعت طريقة' المصادر المفتوحة' لتشمل المعلومات في كافة الاتجاهات وفي كافة العلوم.
وفي عام1993 بدأ التفكير في تأسيس أول إنسكلوبيديا علي الانترنت' الإنتربيديا' لتصبح اكبر مصدر مفتوح للمعلومات بكافة لغات البشر, وقد صممت ليشترك جميع المستخدمين في كتابتها, كما يشتركون في الإفادة منها. لقد أصبح الهدف الآن الاستخدام الأقصي لشبكة الانترنت لتجاوز احتكار المعرفة من اي طرف. وفي ذات الطريق أطلق استاذ الفلسفة الأمريكي لاري سنجر مشروع' نيوبيديا' الذي تحول في عام2001 بالاشتراك مع جيمي ويلز إلي اول' ويكي', وأطلق عليها موسوعة' الويكيبيديا'. وعلي مدي السنوات التالية ظهرت في الفضاء الانترنتي عدة' ويكيات' أخري كان آخرها' ويكيليكس' التي أحدثت الهزة الأخيرة, والتي سأحدثك عنها في المقال القادم.
السبت 5 من محرم 1432 هـــــ 11 ديسمبر 2010 السنة 20 العدد 7167
أتشوق إلى مقالك القادم يا دكتور حنا
ReplyDeleteExcellent Article, very into the point and I really like the idea of having the interactive links. waiting 4 your next one.
ReplyDeleteNancy