Saturday, November 27, 2010

مآل الدولة شبه الدينية

زعمت في مقالي السابق أن مشروع الدولة الدينية الذي بدا حاضرا في أفق واقعنا السياسي علي مدي العقود الأربعة الماضية قد بات إلي زوال‏.‏ وحجتي التي قدمتها هي أن المبشرين بهذه الدولة أصبحوا الآن أكثر قناعة باستحالة التطبيق المباشر للمبدأ الأساسي للدولة الدينية وهو مبدأ الحاكمية لله وما يتبعه من البيعة للخليفة صاحب الولاية‏.‏
غير أنني لا أدعي أن سبب مثل هذا التغير في موقف التيارات الفكرية الدينية المختلفة ان مشروع الدولة الحديثة قد حقق مكاسب دفعت أنصار الدولة الدينية إلي إعادة النظر في جدوي مشروعهم‏.‏ فاعتقادي أن السبب في هذا التحول هو إخفاق مشروع الدولة الدينية نفسه في إقناع أحد بجدواه وخيريته‏,‏ بل علي النقيض من ذلك فكل التطبيقات العملية لهذا المشروع بدءا من السودان وانتهاء بأفغانستان أكدت للجميع خطورة استنساخ نظام الحكم من القرن السابع الميلادي وزرعه قسرا في القرن العشرين وما يتلوه‏.‏
التغير في المواقف إذن سببه قناعة بعض مفكريه بعدم صلاحيته في صورته التقليدية وليس في نجاح الدولة الحديثة في غرس نبتتها في المجتمع‏.‏
وعندي أن فشل المشروع الديني وعدم نجاح المشروع الحداثي أدي إلي تبني الغالبية من النخبة موقفا يلتبسه بعض الغموض‏.‏ فآية الدولة الحديثة هي أنها جعلت الحاكمية للشعب‏,‏ فالأمة هي مصدر السلطات‏,‏ والأهم أن مرجعية هذه الأمة هي العقل والعقلانية الكاملة‏,‏ فالمبادئ الحاكمة للدولة تُستمد من الخبرة التاريخية للأمة‏,‏ وربما من الخبرة الإنسانية بمعناها الشامل‏,‏ والحكم في هذه الدولة هو للمؤسسات الدستورية الحديثة التي ينتخبها الشعب ويراقبها‏.‏
مثل هذا التصور الحداثي تم قبوله بدرجة ما من مفكري التيار الإسلامي‏,‏ فهم من ناحية رفضوا الاستبداد المطلق الذي تنطوي عليه فكرة الحاكمية لله‏,‏ وقبلوا بتوزيع السلطات وأن تصبح الأمة هي مصدرها‏,‏ بل وأن تتم استعارة نماذج المؤسسات الحديثة للإدارة‏,‏ لكنهم اشترطوا تقييد المرجعية الفكرية للمواثيق الحاكمة للدولة لتؤول بكاملها إلي النص الديني كبديل للعقلانية المطلقة التي تحكم الدولة الحديثة‏.‏ ليصبح مثل هذا التوجه بمثابة دولة حديثة مشروطة أو بمثابة دولة شبه دينية‏.‏
في المقابل أدي تراجع مشروع الحداثة والدولة الحديثة في مصر إلي تراجع مماثل بين النخبة الحداثية‏,‏ ففي مواجهة المد الديني الذي أصاب المزاج العام في الشارع المصري اتجهت النخبة الحداثية إلي إضفاء بعض من مظاهر الحضور الديني علي الدولة الحديثة التي تحرسها‏.‏ ولعل أشهر هذه التوجهات هو التركيز علي المادة الدستورية الخاصة بدين الدولة والمرجعية التشريعية لها‏,‏ فيما عرف بالمادة الثانية‏.‏
فالذي صاغ المادة الثانية من الدستور ودفع بها‏,‏ لم يكن التيار الإسلامي الذي عرفناه لاحقا‏,‏ وإنما صيغت من داخل الدولة الحديثة التقليدية‏,‏ وقد صيغت بمهارة تجعل "مبادئ" الشريعة وليس النص الديني هو المرجعية الأولي التي يجوز أن تقبل معها مرجعيات أخري‏.‏ فهي إذن محاولة لحل مأزق الدولة الحديثة في مجتمع غارق في التدين البسيط‏.‏
وظني أن الفاعلين في الدولة الحديثة أدركوا لاحقا أن مثل هذا النص يعطي مكسبا غير مباشر للتيار الديني فضلا عن كونه فرصة للتمييز بين المواطنين علي أساس الدين‏.‏ فكانت الإضافة التالية لهم في المادة الأولي هي مبدأ المواطنة‏.‏ ومن ثم إذا كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الدولة فيما يخص مرجعية القوانين فإن المادة الأولي تضع عليها قيودا حداثية فيما يخص المساواة بين المواطنين‏.‏ وهو ما يجعلها دولة شبه حديثة أو دولة دينية مشروطة‏.‏
ولعل هذا ما يفسر لنا الاتفاق الضمني بين الحداثيين في الحكم من ناحية والتيار الديني في عمومه من ناحية أخري علي الإبقاء علي الصيغ الحالية في الدستور‏,‏ فهي تضمن للطرفين الحد الأدني مما يطالبان به‏,‏ وتنزع عنهما معا الاتهامات المسددة لهما‏.‏ فالتيار الديني يستطيع الإدعاء بالتطور الملائم للقرن الحادي والعشرون ويقبل المواثيق القانونية الحالية كونها تحتكم للنص الديني ولهذا يركزعلي الدفاع عن المادة الثانية‏.‏ بينما يستطيع الحداثين الإدعاء بأنهم لم يتخلوا عن الدولة الحديثة ومن ثم يتزايد دفاعهم عن مبدأ المواطنة‏.‏ ومن ثم اتفق الطرفان ضمنيا علي إسقاط كل من تعبير "الدولة الحديثة" و"الدولة الدينية" واستبدالهما معا بتعبير "الدولة المدنية" وهو في رأيي تعبير غامض عن الدولة شبه الحديثة وشبه الدينية في آن واحد‏.‏
إن الموقف الحالي ينطوي علي مأزق مركب لدعاة الدولة الحديثة وأصحاب المشروع الديني‏,‏ وليس أدل علي ذلك من أن الصيغة التي ارتضياها هي صيغة غير مستقرة توفر لكل الأطراف شدها للاتجاه الذي يراه محققا لتصوره‏.‏ ولإن كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الحداثة والمادة الأولي تضع قيودا علي المشروع الديني‏,‏ فإن هذا معناه أنه تم الاحتكام لوضع القيود المتبادلة كبديل لإطلاق الإبداع الفكري والسياسي  وهو ليس بالأمر الصحي‏.‏
وعندي أن البديل هو إطلاق حوار شامل للبحث في المرجعية الحضارية الشاملة التي لا تهمل الدين ولكنها لا تهمل بالقدر نفسه الخبرة التاريخية للأمة وخاصة تجربتها الحداثية‏.‏

 


 السبت 21 من ذى الحجة 1431 هــ   27 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7153

Saturday, November 20, 2010

نهاية مشروع الدولة الدينية

عندما بدأ مشروع الدولة الحديثة في مصر في منتصف القرن التاسع عشر كان هناك شبه اتفاق عام بين النخبة المصرية المؤثرة بأن التحول من مجتمع العصور الوسطي إلي الدولة الحديثة يتم عبر الحداثة في تجربتها الأوروبية‏

‏ ولم يكن في هذه النخب‏,‏ ومعظمها من بيئة ثقافية دينية والكثيرين منهم أزهريون‏,‏ من يستشعر أي تعارض بين التقدم والتدين‏,‏ بل كانت المعادلة المطروحة هي تبني التقدم والعلم والحداثة مع الاحتفاظ بالمثل والتقاليد الاجتماعية والدينية‏.‏ وقد أسس لهذا التصور مفكرون ورجال دولة مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك‏.‏

تعثر مشروع التحديث في القرن التاسع عشر بسبب سياسات الخديو إسماعيل‏,‏ ونجم عن ذلك أول الخلافات العميقة التي طالت النخبة‏,‏ بين تيار التقدم عبر تكوين المؤسسات والدستور والذي كان يمثله شريف باشا أبو الدستور المصري الحديث‏,‏ وتيار التغيير الثوري الذي مثله أحمد عرابي‏.‏ وهو الصراع الذي انتهي بالاحتلال البريطاني لمصر‏.‏

وقد كان من نتائج فشل ثورة عرابي أن إنقسمت النخبة بين فريقين‏,‏ الفريق الأول يري أن طريق التقدم يمر عبر القضية الوطنية التي هي إنهاء الإحتلال وتحقيق الاستقلال بالارتباط بالجامعة الإسلامية وفي قلبها الخلافة العثمانية‏,‏ ومن ثم  يمر طريق التقدم عبر إصلاح الدين‏.‏ أما الفريق الثاني فكان يري أن الاستقلال ينبغي أن يكون كاملا‏,‏ عن الخلافة العثمانية والإنجليز معا‏.‏ ومثل هذا الاستقلال يتحقق بإصلاح الدنيا بقوة العصر الجديد التي هي العلم‏,‏ ومن ثم يكون التقدم الليبرالي هو الطريق‏.‏

وقد تجمعت بعد الحرب العالمية الأولي عدة عوامل ساهمت في حسم اختيار الشارع المصري والنخبة المصرية في تبني نموذج الدولة الحديثة القائمة علي الصيغة الأولي التي ترسخت في القرن التاسع عشر‏,‏ الليبرالية الحديثة في مجتمع إسلامي تقليدي‏,‏ كان هذا مشروع ثورة‏1919‏ الذي تبلور في دستور‏1923‏ والذي حمل داخله تناقضات التجربة المصرية‏.‏

ولكن نفس هذه العوامل وعلي رأسها إلغاء الخلافة العثمانية دفعت بتيار الإصلاح الديني باتجاه أكثر تشددا‏.‏ فبينما كان الرعيل الأول يدعو للمصالحة بين الحداثة والدين‏,‏ جاء المصلحون الجدد بمفاهيم أكثر راديكالية وتبلور لديهم تصور خاص عن المجتمع الإسلامي بوصفه نقيض المجتمع الحديث‏,‏ وهو مايعني رفض الدولة الحديثة ومؤسساتها وتبني الدولة المثال وهي الدولة الدينية‏.‏

وليس من شك أن عجز النخبة المصرية التي قادت ثورة‏1919‏ عن تحقيق الاستقلال الوطني قد أدي إلي زيادة نفوذ أصحاب الدعوة الدينية‏.‏ بل أن هذا الإخفاق ساعد علي زيادة الحضور الديني بشكل ملموس في كافة طبقات المجتمع المصري بمسيحييه ومسلميه‏,‏ خاصة الطبقة المتوسطة‏.‏ وقد صاحب هذا وفي نفس الوقت صعود نجم القومية المصرية المتطرفة التي سرعان ما تحولت إلي قومية شبه إسلامية مثل حزب مصر الفتاة‏.‏

وعندي أن هذا الانقسام بين دعاة الدولة الحديثة ودعاة الدولة الدينية ظل قائما منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتي الآن‏.‏ وعلي مدي هذه الفترة تغير تصور دعاة الدولة الدينية ليصبح أكثر راديكالية‏.‏ فمن الحديث عن الإصلاح الديني‏,‏ إلي الدعوة إلي إصلاح المجتمع عبر دعوته إلي نمط معين من التدين ومظاهره‏,‏ ثم في الأخير الجهاد ضد المجتمع لفرض التدين بالقوة وفرض الدولة الدينية وهو التطور الذي جعل الجماهير تنتبه لخطورة الحكم الديني المباشر‏.‏

وظني أن أهم التطورات التي حدثت في الفترة الأخيرة هو هذا التحول الذي طرأ علي جميع التيارات الفكرية الإسلامية‏,‏ هذا التحول الذي أسقط فيه الكثير من المفكرين الإسلامين فكرة الدولة الدينية من الأساس‏,‏ وقبول معظمهم جوهر الدولة الحديثة‏,‏ وفي قلبها فكرة قيام الحكم علي أساس أن الأمة مصدر السلطات‏,‏ وأن الدولة ينبغي أن تكون قائمة علي مؤسسات مدنية لا سلطة دينية عليها من أي نوع‏.‏

وعلي الرغم من أن هناك اختلاف حول المرجعية الفكرية لبنية القوانين الحاكمة لهذه الدولة الحديثة ‏(أو المدنية‏),‏ فإن الواقع يقول إننا خطونا خطوة كبيرة نحو المستقبل‏.‏ فهذا التحول الكبير في الفكر السياسي للتيار الإسلامي معناه إعلان هزيمة مشروع الدولة الدينية لأول مرة منذ ثمانين عام‏.‏ وهو ما يجعل من استخدام الشعارات الدينية في السياسة فعلا من أفعال الماضي لن يجد ي نفعا في أي معركة سياسية الآن وفي المستقبل‏.‏
السبت 14 من ذى الحجة 1431 هـــــــ   20 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7146

Monday, November 15, 2010

الكتاب الوحيد الباقي من مطبعة الحملة الفرنسية


في الرابع عشر من يونيو عام 1800 ميلادية الموافق الخامس والعشرين من شهر برربال للسنة الثامنة للجمهور الفرنساوية بدأت محاكمة سليمان الحلبي قاتل ساري عسكر الفرنساوية كلهبر (كليبر) وقد انتهت المحاكمة بعد أربعة أيام وسجلت أحداث المحاكمة في كتاب مطبوع على مطبعة الحملة التي كانت أول مطبعة تدخل الأراضي المصرية. وقد طبع باللغات العربية والتركية والفرنسية.

رحل الفرنسيون ومعهم مطبعتهم وضاعت كل المطبوعات التي طبعت عليها باستثناء كتاب واحد هو كتاب المحاكمة الذي جاء بعنوان
مجمع التحريرات المتعلقة 
إلى ماجرى باعلام
ومحاكمة سليمان الحلبي
قاتل صاري عسكر العام كلهبر
      ولا تعود أهمية الكتاب إلى محتواه ، لأن المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي قد نشر نصه الكامل في مؤلفه الشهير "عجائب الأثار في التراجم والأخبار" وإنما تعود أهميته في كونه الوثيقة الوحيدة الباقية والمكتوب على غلافها " بمصر القاهرة ، بمطبعة الجمهور الفرنساوي" . فالكتاب يعد بذلك وثيقة تاريخية كونه أقدم كتاب طبع في مصر وعمره مائتان وعشر سنوات

أنقر على الصورة للحصول على نسخة من الكتاب



Saturday, November 13, 2010

الجبتــانا


'‏الجبتانا‏'‏ هو عنوان لكتاب صدر في مطلع العام الحالي‏,‏ وبعنوان فرعي‏'‏ أسفار التكوين المصرية‏'.‏ ومؤلف الكتاب هو الأستاذ علي علي الألفي الموجه السابق في التربية والتعليم‏.‏ أثار الكتاب وعنوانه اهتمامي‏,‏
وعندما عكفت عليه لقراءته أثار عندي الكثير من الأسئلة وعلامات الدهش‏.‏ فالمؤلف ينسب مادة الكتاب إلي المؤرخ المصري العظيم مانيثون‏,‏ الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد‏.‏ وقد ألف مانيثون عدة مؤلفات فقدت جميعها باستثناء أجزاء من كتابه الأهم عن تاريخ مصر القديم وعنوانه‏'‏ الإيجبتياكا‏',‏ والذي يعتبر أحد أهم مصادر تاريخ مصر القديم حتي يومنا هذا ولذلك يلقب مانيثون بــ‏'‏أبو التاريخ المصري‏'.‏
والأستاذ علي الألفي المؤلف يكاد يكون مؤمنا بأن كتابه‏'‏ الجبتانا‏'‏ هو أسفارالتكوين المصرية كما كتبها مانيتون‏,‏ وله فعلا كتاب مفقود بعنوان‏'‏ الأسفارالمقدسة‏'.‏ وقد أعطي الإيحاء بذلك بأن صدر كتابه بكلمة‏'‏ تحقيق‏',‏ كما أعطاه عنوانا داخليا يقول‏'‏ الأصل اللاهوتي الديموطيقي مانيتون السمنودي برواية الراهب أبيب النقادي‏',‏ وجعل من مهمته كباحث‏'‏ الجمع والتحقيق والمراجعة التاريخية والصياغة العربية‏'.‏
كل هذه العناوين توحي بأنه حقق مادة تاريخية متوافرة لديه‏,‏ لكنك ما أن تبدأ القراءة حتي تكتشف أن هذه المادة التاريخية إن هي إلا رواية شفاهية للراهب‏'‏ أبيب النقادي‏'‏ الذي عاش عمر مديدا من ستينيات القرن التاسع عشر حتي خمسينيات القرن العشرين‏.‏ فالمؤلف يذكر أنه تعرف شاب صغير علي الراهب ومن ثم نقل عنه رواياته الشفاهية التي كان قد توارثها عبر الأجيال منذ زمن مانيثون‏,‏ أي علي مدي واحد وعشرين قرنا من الزمان‏.‏
ومما يجعل الكتاب مدهشا أن المؤلف أخرجه الكتاب علي هيئة الكتاب المقدس فهو مكون من عدة أسفار وكل سفر مكون من عدة إصحاحات‏,‏ وهو يمزج الأساطير المصرية القديمة مزجا ليجعل منها التاريخ الأسطوري لتكوين الجماعة المصرية كما يراها‏,‏ فهو إذن كتاب في الحنين إلي مصر كما يحبها المؤلف‏.‏
وتثير رواية الراهب أبيب الشفاهية قضية مهمة تلك التي تدور حول التراث التاريخي الشفاهي الذي كان لدي المصريين عن تاريخهم القديم‏,‏ وقد اثار هذه القضية الراحل الدكتور حسين فوزي عندما حاول أن يعرف المصادر التي استقي منها مؤرخي القرون الوسطي المسلمين العظام بدءا من ابن عبد الجكم وانتهاءا بابن إياس معلوماتهم عن تاريخ مصر القديمة‏.‏ فقد راعه أن تكون كافة القصص المتداولة عن تاريخ مصر القديم أسطورية وخيالية إلي حد كبير علي الرغم من الحضور الطاغي للحضارة المصرية القديمة علي مدي آلاف السنين‏.‏ ومن ثم ناقش احتمالية القصص التاريخية الشفاهية التي كان يحفظها الأقباط عن تاريخهم القديم‏.‏ والتي كانت في مجملها أسطورية و ملحمية اكثر منها حقائق تاريخية‏,‏ والتي تشكلت عبر مرحلة تاريخية مضطربة أشد الإضطراب امتدت من القرن الرابع الميلادي حتي مجيء العرب‏.‏
ولدينا مؤلف تاريخي للأسقف يوحنا النيقوسي من القرن السابع الميلادي يؤكد ما ذهب إليه حسين فوزي إذ يحتوي كتابه علي بعض شذرات من تاريخ مصر القديم تتميز بالروح الأسطورية رغم احتوائها علي بعض الحقائق التاريخية‏.‏
الجبتانا إذا ليس كتابا في التاريخ ولا يمكن تقيمه تاريخيا‏,‏ لكنه بالرغم من ذلك كتاب شاعري وأسطوري في حب مصر‏,‏ بل لعله غارق في غرامه بمصريته‏.‏ وهو يقدم مصر القديمة بكلمات حديثة تداخل فيها ما ترسخ في الوجدان المصري من ثقافات عبرت علي الكيان المصري يونانية وعربية‏,‏ مسيحية وإسلامية وهو عندي أحد أشكال التعبير عن أزمة الهوية التي نعانيها منذ عقود‏.‏
لقد أصبحنا بحاجة شديدة لتمثل تاريخنا بمراحله جميعها بشكل متوازن وواقعي لا يغلب فيه حقبة علي أخري وتختزل فيه فترات لصالح فترات أخري‏.‏ فنحن بحاجة إلي استكشاف الذات التاريخية وليس إلي اختراعها اختراعا‏.‏
السبت 7 من ذى الحجة 1431 هـــــــ   13 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7139

Saturday, November 6, 2010

متحف الفن الإسلامي‏...‏ بالتوقيت الأوروبي

 

لمتاحف الآثار أهمية كبيرة في كل مكان في العالم‏,‏ وهي إذ تحتوي علي ما تركه الأقدمون لنا من أثار حياتهم تعيننا علي أن نفهم تاريخهم وتاريخنا‏,‏ أصلهم وأصلنا‏,‏ وتساهم في تعميق وعينا بجذورنا الإنسانية‏.‏
ولمتاحف الآثار ما هو أكثر أهمية من ذلك‏,‏ فهي تشكل أحد رموز الوطن‏,‏ بل إنها في الأساس احدي منتجات الدولة القومية الحديثة حيث تشكل مع الراية‏(‏ العلم‏)‏ والسلام الوطني رموزا وطنية يتشكل بها الوجدان الوطني لأبنائه‏.‏ ولهذا السبب لا تجد في العالم كله دولة تتهاون مع أي إساءة لرايتها او نشيدها الوطني‏,‏ كما تتسابق كافة الدول في العناية بمتاحفها الوطنية التي تحتوي آثارها وتاريخها‏.‏
ولأن مصر بلد صناعته التاريخ‏,‏ ولأن أجدادنا وعلي مدي التاريخ احترفوا صناعة الحياة وأدواتها‏,‏ فإنهم تركوا لنا تراثا أثريا لا مثيل له في العالم كله‏.‏ فعلي مدي أكثر من سبعة آلاف عام تركوا لنا ما يسمح بإنشاء متحف وطني كبير في كل محافظة من محافظات مصر‏,‏ ليصبح مدرسة حقيقية للوجدان الوطني علي كل بقعة من بقاع الوطن‏.‏
لكننا اخترنا أن نستسلم لتفتيت تاريخنا الوطني إلي حقب تاريخية منقطعة الصلة عن بعضها البعض‏,‏ وأسسنا علي ذلك أن تكون متاحفنا انعكاسا لوعينا التاريخي المفتت والمأزوم‏.‏ فقد أسسنا لمتحف الآثار المصرية القديمة‏,‏ آخر لآثار المرحلة اليونانية الرومانية وثالثا للفن القبطي ورابعا للفن الإسلامي‏.‏ ورسخنا في أذهان العامة والمتعلمين فكرة متحف‏'‏ الأنتيكات‏',‏ وربطنا دون أن ندري بين الهوية الدينية والأثار الوطنية‏.‏
بل إننا ذهبنا إلي ما هو أبعد من هذا‏,‏ ففي الوقت الذي أهملنا فيه إثراء الوعي الوطني لأطفالنا وشبابنا و جماهيرنا بأثارنا وتراثنا في متاحفه المغلقة والمفتوحة‏,‏ سري في وعينا دون أن ندري أن هذه الآثار ما هي إلا أدوات سياحية مهمتها جلب المنافع الاقتصادية‏,‏ ومن ثم يكون التركيز علي الاهتمام بها هو المحافظة عليها حتي تستمر في در الأرباح‏,‏ والاهتمام بزائرها الذي هو السائح الأجنبي والعمل علي راحته‏.‏
ولأن لدينا ازمة في الوعي التاريخي‏,‏ ولأن لدينا أزمة في تمثل الدولة الوطنية الحديثة‏,‏ فالنتيجة الموضوعية هي فقدان الوعي الأثري والمتحفي بالكلية‏,‏ يستوي في ذلك المتعلمون وغير المتعلمين‏,‏ بل ويطول‏,‏ وللأسف الشديد‏,‏ المسئولين عن هذه المتاحف‏,‏ ويبدو أنهم يظنون أنهم يحرسون مخازن للأنتيكات باهظة الثمن‏.‏ وهذا ما اختبرته شخصيا في زيارتي الأخيرة لمتحف الفن الإسلامي‏.‏
فقد ذهبت مع البعض إلي المتحف ظهر يوم الجمعة الموافق‏30‏ أكتوبر‏,‏ كنا ممتلئين شغفا وحماسا لمشاهدة ما قد حجب عنا لمدة ثماني سنوات كاملة‏,‏ أكثر من مائة ألف قطعة أثرية بعضها لا مثيل له في العالم‏,‏ وتحكي جزءا مهما من تاريخ أسلافنا فيما تركوه لنا‏.‏ ولأننا نعرف كما يعرف الكثيرون مواعيد الزيارة أيام الجمع‏,‏ فقد وصلنا أمام المتحف في تمام الساعة الواحدة بعد الظهر وهو موعد فتح أبواب المتحف للفترة المسائية‏.‏
كان باب المتحف مغلقا وقد بدأ الزوار المصريون والأجانب يتوافدون أمامه حتي ملأوا الرصيف‏,‏ مرت عشر دقائق دون أن يفتح أحد الباب عندما توجهت لأفراد الأمن علي البوابة الجانبية للاستفسار إن كان هناك مشكلة‏.‏ وكانت المشكلة ببساطة أن الموظف المسئول قد ذهب لصلاة الجمعة وأخذ معه مفتاح البوابة‏!.‏
شئ غريب وغير مفهوم فالمساجد والجوامع حول المتحف بالعشرات وبعضها علي بعد امتار من المتحف‏,‏ والصلاة قد انتهت في كافة الجوامع قبل أربعين دقيقة علي الأقل‏,‏ لكن الموظف لم يظهر إلا في الواحدة والنصف بعد أن تكدس الناس علي الرصيف وجلس بعضهم عليه من التعب‏.‏
فتحت البوابة لندخل‏,‏ ما هذ الجيش من الموظفين والعمال ورجال الأمن؟ وما هذه الطريقة التي يتعاملون بها مع رواد المتحف؟‏,‏ والتي أقل ما يقال عنها أنها معاملة خشنة وفوضوية‏.‏ تكدس تسبب فيه التأخير في فتح الباب يعقبه تعامل يجعل مني ومنك مواطنا مشكوكا فيه‏,‏ ربما ترغب في الدخول بغير تذكرة‏!!,‏ أو تهريب كاميرا‏!!.‏
نطوف في المتحف بآثاره الجميلة‏(‏ بعض الآثار التي كانت معروضة سابقا لم أعد أعرف مكانها بعد التطوير‏).‏ كنت أحدث صحبتي عن بعضها فانضم إلينا مواطن مصري جميل يصطحب أطفاله معه ليعرفهم أثار بلدهم‏,‏ وفجأة يظهر أحد الموظفين ليسألني إن كنت مرشدا سياحيا؟‏!,‏ ففي بلدنا لا يعرف التاريخ والأثار إلا المرشد السياحي‏!!.‏ أثرت أن أشرح أن هذه زوجتي وهذه صديقتنا وهذا الرجل أخي المواطن المصري الجميل الذي تعرفت عليه للتو‏,‏ فهل هذا بحاجة لمثل هذا التدخل الفج من موظف تفشل إدارته في تنظيم دخول مائة فرد إلي المتحف في الميعاد المقرر؟‏.‏
من الواضح إننا لسنا بحاجة لتطوير فترينات العرض لمقتنياتنا الأثرية لتبدو جميلة‏,‏ نحن بحاجة ماسة إلي تدريب وتعليم هؤلاء الذين عهدنا إليهم الحفاظ علي هذه المقتنيات علي كيفية التعامل مع زوار المتحف‏.‏ إننا بحاجة إلي تعليم هؤلاء المسئولين ما الذي يعنيه المتحف والأثر والمواطن‏.‏ فعلي باب المتحف المغلق سأل أحد الأجانب أخر عن موعد فتح باب المتحف فأجابه باسما‏,‏ بالتوقيت المصري أم بالتوقيت الأوروبي‏.‏
السبت 29 ذى القعدة 1431 هـــــــ   6 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7132

Wednesday, November 3, 2010

أين الحكمة....... قد فقدنا المعرفة

معادلة بسيطة تحكم تقدم الأفراد والشعوب‏,‏ وهي معادلة حاكمة لا تتغير بتغير الجنس أو اللغة أو العرق‏,‏ فهي قائمة وصحيحة لأي إنسان طالما هو صحيح الجسد ويملك حواسه الطبيعية الخمس وأيضا يملك عقلا سليما قادرا علي الإدراك‏.‏

وتبدأ الخطوة الأولي في المعادلة بتراكم البيانات‏,‏ وعندما يكتشف الإنسان العلاقات القائمة بين تلك البيانات تتحول إلي معلومات‏,‏ والخطوة الثانية تحدث عندما تترابط هذه المعلومات في سياقات ودروب عقلية مختلفة‏,‏ أدبية وتاريخية وعلمية‏,‏ فتتحول إلي معرفة‏,‏ والخطوة الثالثة تحدث عندما تتكاثف المعارف وتندمج ليشكل منها الإنسان خلاصة الحكمة التي تقود الإنسان في طريق التقدم‏.‏
 

الحكمة إذن‏,‏ ليست إلهاما أو رؤي تتراءي‏,‏ فهي أولا‏,‏ نتاج لجهد وتحصيل لكل ما يمكن الحصول عليه من معلومات ومعارف‏.‏ وهي ثانيا‏,‏ تراكم لعدة عمليات عقلية متاحة لكل عقل إنسان إن توفر له أن يختبرها ويتعلمها‏,‏ والحكمة ثالثا‏,‏ تحتاج إلي مهارات عقلية يمكن تعلمها‏,‏ ويمكن نشرها في المجتمع إن قررنا تدريب أبنائنا علي التفكير العقلاني الناقد‏.‏
 

وإن شئت ان تري لذلك مثالا فحاول أن تتحري كم الدراسات والنظريات والتطبيقات العملية التي قام بها علماء النفس والتربية في العالم المتقدم سعيا للوصول لأحسن سبل التفكير التي تعظم من تراكم البيانات وتكامل المعلومات وجدة المعارف ونقاء الحكمة‏.‏ نجحوا أو لم ينجحوا في الوصول إلي أحسن النتائج‏,‏ ليس هذا هو المهم‏,‏ فالأهم أنهم اختاروا الطريق الصعب الذي هو السعي نحو المعرفة والجرأة علي البحث عن الحكمة الضائعة‏,‏ فهما سبيل التقدم‏,‏ فكانوا هم‏,‏ قياسا للأمم الأخري أكثر تقدما وقوة‏.‏
 

بل إن كثرة المعلومات وزيادة المعارف قد أديا عندهم إلي الشكوي من أنهما تسببا في ضياع الحكمة‏,‏ فهذا ما اشتكي منه تي إس إيليوت‏,‏ الشاعر الأمريكي الانجليزي الأصل‏,‏ ففي قصيدة له نشرها عام‏1936‏ بعنوان‏'‏ الصخرة‏'‏ ينعي إليوت الحياة التي أضعناها في العيش‏,‏ والحكمة التي ضاعت في فيض المعارف‏,‏ يقول إليوت‏:‏
أين هي الحياة التي فقدناها في المعيشة؟
أين هي الحكمة التي فقدناها في المعرفة؟
أين هي المعرفة التي فقدناها في المعلومات؟
هكذا ينعي الشاعر في مجتمع المعرفة ضياع الحكمة بسبب تراكم المعارف وتعددها‏,‏ وأغلب الظن ان إليوت كان رافضا لتشرذم العلوم إلي تخصصات دقيقة أضاعت نكهة الحياة وأفرغتها من معناها‏.‏
 

ولئن كانت حالة الغرب هي الشكوي من ضياع الحكمة لغزارة المعرفة‏,‏ فإن حالتنا هي ادعاء الحكمة دون الحاجة للمعرفة‏,‏ هكذا نتغني منذ قرون بأننا نملك الحكمة الخالصة التي وهبها الله إيانا دون الحاجة إلي تعب التفكير والملاحظة‏,‏ فكل ما علينا هو التحصيل والمذاكرة‏.‏ هكذا كنا لقرون إلي ان أصبحنا فوجدنا أنفسنا ضعفاء ومتخلفين‏,‏ لأنه إن كانت معادلة التقدم متاحة بيولوجيا للجميع‏,‏ فإن المعوق الوحيد لهذه المعادلة هو ثقافي واجتماعي‏.‏ وإن شئت دليلا عليك أن تطالع هذا المشهد الأسيف الشهير الذي يصف فيه الشيخ الجبرتي انبهاره بما رآه‏,‏ وهوالعالم العلامة والأديب الأريب‏,‏ في المجمع العلمي للحملة الفرنسية من علوم وأفكار وآلات لم تخطر له علي بال‏.‏
 

وقد جاءت الصدمة بالصحوة‏,‏ لكنها لم تكن صحوة البحث عن المعرفة والحكمة وإنما كانت صحوة البحث عن النتائج التقنية للمعارف‏.‏ فمنذ أن بدأنا تجربة التحديث في بلادنا كانت أعين أولي الأمر علي الآلات والمهنيين المهرة‏.‏ كان سعينا هو استيراد التكنولوجيا وليس المعرفة‏.‏
 

فالمطالع لجداول بعثاتنا التعليمية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين سوف يجد هذا السعي نحو العلوم التقنية والإحجام شبه التام عن العلوم البحتة والفلسفة‏,‏ حتي ان صدمة الفلسفة جاءت في عام‏1926‏ عندما كتب الدكتور طه حسين كتابه الشعر الجاهلي الذي ذكر فيه أول استخدام لمنهج فلسفي في بحث أدبي‏,‏ ويا لها من صدمة ويا له من رد فعل‏.‏
 

والمتابع لأحوال التعليم في جامعاتنا منذ أن أصبحت مجانية ومتاحة للجميع‏,‏ فسيجد نفس الميل لدي المجتمع والدولة‏,‏ الا وهو السعي إلي الكليات التقنية التي أطلقنا عليها كليات القمة‏,‏ وهي كليات الطب والصيدلة والهندسة وإدارة الأعمال‏,‏ لتأتي في ذيلها كليات العلم المهملة‏,‏ العلوم والرياضيات والفلسفة والعلوم الإنسانية‏.‏ كما سيكتشف بسهولة كيف أصبحنا أقل إنتاجا للمعرفة في كافة المجالات‏,‏ وبتنا أكثر بعدا عن الحكمة كمسعي‏.‏ وحولنا الجامعة من قلعة علمية دينها العقل إلي رواق يتقاطر فيه الطلاب للذكر والتذكر والحفظ‏.‏
 

إن مشكلتنا مع التقدم واضحة‏,‏ فإننا لم نراكم شيئا من المعارف ولم نسع يوما إلي الحكمة من خلال ما راكمنا‏,‏ فقد قررنا الاستقالة من الإثنين‏.‏ وتفرغنا للتأكيد بأن كل ما أنتجه‏,‏ وما سينتجه‏,‏ الأخرون من معارف وحكم هو متضمن في ثقافتنا وكل ما علينا أن نعيد اكتشافه بمقاييسنا‏,‏ فلم نراكم معرفة‏,‏ وفقدنا الحكمة‏.‏


31/10/2010