Wednesday, November 3, 2010

أين الحكمة....... قد فقدنا المعرفة

معادلة بسيطة تحكم تقدم الأفراد والشعوب‏,‏ وهي معادلة حاكمة لا تتغير بتغير الجنس أو اللغة أو العرق‏,‏ فهي قائمة وصحيحة لأي إنسان طالما هو صحيح الجسد ويملك حواسه الطبيعية الخمس وأيضا يملك عقلا سليما قادرا علي الإدراك‏.‏

وتبدأ الخطوة الأولي في المعادلة بتراكم البيانات‏,‏ وعندما يكتشف الإنسان العلاقات القائمة بين تلك البيانات تتحول إلي معلومات‏,‏ والخطوة الثانية تحدث عندما تترابط هذه المعلومات في سياقات ودروب عقلية مختلفة‏,‏ أدبية وتاريخية وعلمية‏,‏ فتتحول إلي معرفة‏,‏ والخطوة الثالثة تحدث عندما تتكاثف المعارف وتندمج ليشكل منها الإنسان خلاصة الحكمة التي تقود الإنسان في طريق التقدم‏.‏
 

الحكمة إذن‏,‏ ليست إلهاما أو رؤي تتراءي‏,‏ فهي أولا‏,‏ نتاج لجهد وتحصيل لكل ما يمكن الحصول عليه من معلومات ومعارف‏.‏ وهي ثانيا‏,‏ تراكم لعدة عمليات عقلية متاحة لكل عقل إنسان إن توفر له أن يختبرها ويتعلمها‏,‏ والحكمة ثالثا‏,‏ تحتاج إلي مهارات عقلية يمكن تعلمها‏,‏ ويمكن نشرها في المجتمع إن قررنا تدريب أبنائنا علي التفكير العقلاني الناقد‏.‏
 

وإن شئت ان تري لذلك مثالا فحاول أن تتحري كم الدراسات والنظريات والتطبيقات العملية التي قام بها علماء النفس والتربية في العالم المتقدم سعيا للوصول لأحسن سبل التفكير التي تعظم من تراكم البيانات وتكامل المعلومات وجدة المعارف ونقاء الحكمة‏.‏ نجحوا أو لم ينجحوا في الوصول إلي أحسن النتائج‏,‏ ليس هذا هو المهم‏,‏ فالأهم أنهم اختاروا الطريق الصعب الذي هو السعي نحو المعرفة والجرأة علي البحث عن الحكمة الضائعة‏,‏ فهما سبيل التقدم‏,‏ فكانوا هم‏,‏ قياسا للأمم الأخري أكثر تقدما وقوة‏.‏
 

بل إن كثرة المعلومات وزيادة المعارف قد أديا عندهم إلي الشكوي من أنهما تسببا في ضياع الحكمة‏,‏ فهذا ما اشتكي منه تي إس إيليوت‏,‏ الشاعر الأمريكي الانجليزي الأصل‏,‏ ففي قصيدة له نشرها عام‏1936‏ بعنوان‏'‏ الصخرة‏'‏ ينعي إليوت الحياة التي أضعناها في العيش‏,‏ والحكمة التي ضاعت في فيض المعارف‏,‏ يقول إليوت‏:‏
أين هي الحياة التي فقدناها في المعيشة؟
أين هي الحكمة التي فقدناها في المعرفة؟
أين هي المعرفة التي فقدناها في المعلومات؟
هكذا ينعي الشاعر في مجتمع المعرفة ضياع الحكمة بسبب تراكم المعارف وتعددها‏,‏ وأغلب الظن ان إليوت كان رافضا لتشرذم العلوم إلي تخصصات دقيقة أضاعت نكهة الحياة وأفرغتها من معناها‏.‏
 

ولئن كانت حالة الغرب هي الشكوي من ضياع الحكمة لغزارة المعرفة‏,‏ فإن حالتنا هي ادعاء الحكمة دون الحاجة للمعرفة‏,‏ هكذا نتغني منذ قرون بأننا نملك الحكمة الخالصة التي وهبها الله إيانا دون الحاجة إلي تعب التفكير والملاحظة‏,‏ فكل ما علينا هو التحصيل والمذاكرة‏.‏ هكذا كنا لقرون إلي ان أصبحنا فوجدنا أنفسنا ضعفاء ومتخلفين‏,‏ لأنه إن كانت معادلة التقدم متاحة بيولوجيا للجميع‏,‏ فإن المعوق الوحيد لهذه المعادلة هو ثقافي واجتماعي‏.‏ وإن شئت دليلا عليك أن تطالع هذا المشهد الأسيف الشهير الذي يصف فيه الشيخ الجبرتي انبهاره بما رآه‏,‏ وهوالعالم العلامة والأديب الأريب‏,‏ في المجمع العلمي للحملة الفرنسية من علوم وأفكار وآلات لم تخطر له علي بال‏.‏
 

وقد جاءت الصدمة بالصحوة‏,‏ لكنها لم تكن صحوة البحث عن المعرفة والحكمة وإنما كانت صحوة البحث عن النتائج التقنية للمعارف‏.‏ فمنذ أن بدأنا تجربة التحديث في بلادنا كانت أعين أولي الأمر علي الآلات والمهنيين المهرة‏.‏ كان سعينا هو استيراد التكنولوجيا وليس المعرفة‏.‏
 

فالمطالع لجداول بعثاتنا التعليمية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين سوف يجد هذا السعي نحو العلوم التقنية والإحجام شبه التام عن العلوم البحتة والفلسفة‏,‏ حتي ان صدمة الفلسفة جاءت في عام‏1926‏ عندما كتب الدكتور طه حسين كتابه الشعر الجاهلي الذي ذكر فيه أول استخدام لمنهج فلسفي في بحث أدبي‏,‏ ويا لها من صدمة ويا له من رد فعل‏.‏
 

والمتابع لأحوال التعليم في جامعاتنا منذ أن أصبحت مجانية ومتاحة للجميع‏,‏ فسيجد نفس الميل لدي المجتمع والدولة‏,‏ الا وهو السعي إلي الكليات التقنية التي أطلقنا عليها كليات القمة‏,‏ وهي كليات الطب والصيدلة والهندسة وإدارة الأعمال‏,‏ لتأتي في ذيلها كليات العلم المهملة‏,‏ العلوم والرياضيات والفلسفة والعلوم الإنسانية‏.‏ كما سيكتشف بسهولة كيف أصبحنا أقل إنتاجا للمعرفة في كافة المجالات‏,‏ وبتنا أكثر بعدا عن الحكمة كمسعي‏.‏ وحولنا الجامعة من قلعة علمية دينها العقل إلي رواق يتقاطر فيه الطلاب للذكر والتذكر والحفظ‏.‏
 

إن مشكلتنا مع التقدم واضحة‏,‏ فإننا لم نراكم شيئا من المعارف ولم نسع يوما إلي الحكمة من خلال ما راكمنا‏,‏ فقد قررنا الاستقالة من الإثنين‏.‏ وتفرغنا للتأكيد بأن كل ما أنتجه‏,‏ وما سينتجه‏,‏ الأخرون من معارف وحكم هو متضمن في ثقافتنا وكل ما علينا أن نعيد اكتشافه بمقاييسنا‏,‏ فلم نراكم معرفة‏,‏ وفقدنا الحكمة‏.‏


31/10/2010

No comments:

Post a Comment