Tuesday, January 25, 2011

اليائـس من الحيــاة


ربما كانت أقدم قصص محاولات الانتحارالمعروفة في التاريخ، تلك التي قام بها هذا الفليسوف المصري القديم. فقد أقدم منذ أكثر من أربعة آلاف عام علي الانتحار حرقا، وربما حدث ذلك في أعقاب انهيار الدولة المصرية القديمة، دولة بناة الأهرامات العظام. لكنه توقف ليشرح لنا موقفه من الحياة والموت. وليضع أمامنا أسبابه في اختيار الموت وتفضيله علي الحياة
ففي قصته المسجلة في بردية شهيرة محفوظة في متحف برلين يقدم لنا هذا المصري القديم أقدم حوار مع الذات، وهو يبدأ بوصف حالته الكئيبة والميؤس منها والتي تدفعه دفعا للانتحار. ففي فصل شعري طويل يصف لنا حالته المزرية التي أصبحت لا تطاق. يقول اليائس من الحياة واصفا نفسه
إن اسمي ممقوت، أكثر من رائحة التماسيح في يوم حار
إن اسمي ممقوت، أكثر من المرأة التي يتقولون عليها بالزنا
إن اسمي ممقوت، أكثر من الفتي الجبان الذي يسلم نفسه لخصمه
إن اسمي ممقوت، أكثر من مدينة تغلي بالتمرد عندما يغفل عنها حاكمها
وهذا اليائس التاريخي الذي لا يطيق نفسه له أسبابه، فالواقع الاجتماعي الذي كان يعيش فيه كان ظالما، يرتع فيه الشر في كل مكان، وتراجع فيه الخير عن جميع الناس. حتي الإخوة والأصدقاء اصبحوا اعداء لبعضهم البعض. فالقوة والثروة ذهبت للأشرار، والجار يسرق جاره والفلاح يذهب إلي الحقل حاملا سلاحه. فقد قل الأمان والخير والوفاء، ولم يعد للإنسان من صديق أو أخ أو جار يتحدث إليه وهذا هو ما يقرره اليائس من الحياة في الجزء الثاني من قصته، إنه يقول
لمن أتكلم اليوم، الاخوة شر وأصدقاء اليوم بلا حب
لمن أتكلم اليوم، فالقلوب سارقة والكل ينهب متاع جاره
لمن أتكلم اليوم، الوداعة انتهت والصفيق الوجه حط في كل مكان
لمن أتكلم اليوم، الكل يشيح بوجهه حتي عن اخيه
لمن أتكلم اليوم، ليس هنالك أناس عادلون والأرض تركت لصانعي الشر
لمن أتكلم اليوم، ليس من صديق وفي والناس يلجأون إلي المجهول
لمن أتكلم اليوم، ليس هناك انسان قانع ولم يعد وجود للرفيق في الحياة
لمن أتكلم اليوم، اني مثقل بالمتاعب فليس لي صديق
لمن أتكلم اليوم، الشر الذي يطوف العالم لا نهاية له
وهكذا لم يعد لصاحبنا مكانا في هذا العالم الشرير، وهذا المجتمع الظالم والقاسي. فقد أصبح الوطن غربة قاسية، وهو لا يستطيع أن يتعامل في هذا المجتمع بقوانينه العنيفة وقيمه الكاذبة. لقد أصبحت الحياة جحيما لا يطاق، وهكذا يصبح  الموت هو الطريق الوحيد للخلاص من هذا العالم الشرير البائس، ويصبح الاقدام علي الانتحار عمل خلاصي شجاع وخير. فاليائس من الحياة يتغزل في الموت ويقول
 الموت امام عيني اليوم، بمثابة الشفاء من المرض
الموت امام عيني اليوم، كالتحرر من السجن
الموت امام عيني اليوم، كالجلوس تحت شراع في يوم عليل النسيم
الموت امام عيني اليوم، كشذي زهرة اللوتس
الموت امام عيني اليوم، كالسماء الصافية
الموت امام عيني اليوم، كرجل يحن الي بيته بعد سنوات من الأسر
ولا نعرف إن كان صاحب النص انتحر أم لا ففي الجزء الأخير من البردية نجد نفسه تحاوره، لتثنيه عن الانتحار مذكرة إياه بأن تحمل متاعب الحياة وانتظار الموت الطبيعي أفضل من الإقدام علي إهلاك النفس والجسد. علي أن النص لا يعطينا إجابة إن كان قد استجاب أم لا
والنص الذي عرضت لك أجزاء قليلة منه عن هذا اليائس من الحياة يدلك بوضوح علي أن اليأس من الحياة لم يتغير منذ الألف الثالثة قبل الميلاد إلي أبواب الألف الثالثة بعده، فعلي مدي آلاف السنين يقف المنتحر ليشرح لنا نفس المشاعر الحزينة التي تكتنفه، ويصرخ إلينا ونحونا شارحا نفس المشاكل الاجتماعية التي تدفعه دفعا إلي الانطواء والارتباك والخوف والعزلة، ثم في النهاية إلي اختيار الموت شاطئ ومرفأ له يستخدم أكثر الأدوات ألما للوصول اليه
ويبدو لي أن أحدا لم يفهم "اليائس من الحياة " لا بالأمس البعيد ولا بالأمس القريب، وربما لن يفهمه أحد في الغد القريب أو المستقبل، فلا يبدو أن هناك من يتعلم من تجارب التاريخ



السبت 18 من صفر 1432 هــــــــ   22 يناير 2011 السنة 20 العدد 7209 




Sunday, January 9, 2011

أوائل الترجمات: إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شرلكان

أسس رفاعة الطهطاوي مدرسة الألسن في عام 1835 وتخرجت أول دفعة من المترجمين في عام 1939 ، كان رفاعة من أول المترجمين بدا بترجمة كتب الطب والهندسة والجغرافية ،ثم وجه تلاميذه إلى ترجمة كتب التاريخ العالمية ، وساعده في ذلك اقتناع محمد علي باهميتها.والكتاب الذي أقدمه لك  من ترجمة أحد تلاميذ الشيخ رفاعة ، وهو"خليفة أفندي بن محمود" . والكتاب الأصلي ألفه  عالم التاريخ الاسكتلندي " وليام روبرستون" في عام 1769 وعنوانه(تاريخ حكم الإمبراطور  شارل الخامس) . صدرت أكثر من  ترجمة فرنسية للكتاب منها تلك التي صدرت في  عام 1771 مع مقدمة عن تاريخ التطور السياسي في أوروبا ما قبل شارل الخامس .
عن  هذه الترجمة الفرنسية ترجم خليفة أفندي ترجمته العربية بعنوان (إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شرلكان). وفي هذه المدونة أقدم لك الثلاثة كتب ، الأصل الإنجليزي للكتاب ، والترجمة الفرنسية التي ترجم عنها خليفة أفندي وأخيرا الترجمة العربية التي صدرت عام .1844
وتعد الترجمة العربية التي بين يديك من أدق الترجمات  من حيث الدقة والالتزام بالأصل ، وأيضا من حيث تمكن المترجم من اللغة العربية الدقيقة والجزلة والممتعة في آن. وبقى أن تعرف أن سبب تسميته لشارل الخامس بشرلكان هو ان الترجمة الفرنسية كتبت إسم       فترجم أسمه كما ينطقه بالفرنسية ، Charles Quint ،بمكان ولادته   شارل مكنيا   


يمكنك تحميل

الأصل الإنجليزي                              الترجمة الفرنسية                            الترجمة العربية 





Saturday, January 8, 2011

ومـــــــاذا كنـــــا ننتظـــــــر؟


مرة أخري تتعرض مصر ونسيجها الوطني والاجتماعي لضربة إرهابية وإجرامية قاسية‏,‏ ومرة أخري يصبح أقباطها هدفا لقوي التعصب والإرهاب بما يهدد بدفعهم إلي مزيد من الذعر والتقوقع أو الانفجار العشوائي مثلما رأينا في الأيام السابقة‏

‏ ومرة أخري تثبت الجماهير المصرية العادية بكافة طبقاتها‏,‏ أللهم إلا قليلا‏,‏ عافيتها وقدرتها علي الاحساس بالخطر والانتباه لمزالقه‏.‏ فبدون إشارات من نخب أو قيادات أو كيانات تحرك المجتمع المصري كله لمحاصرة الخطر‏,‏ وجاءت المبادرات الإيجابية الصادقة والتي تحمل طابعا حضاريا وإنسانيا راقيا من الأفراد علي كافة المستويات وخاصة من الأجيال الشابة التي اتهمناها كثيرا بالسطحية واللامبالاة‏.‏

والواقع أن هذه التحركات الشعبية الإيجابية في مجملها كشفت بما لا يدع مجالا للشك ان المجتمع المصري أقوي من النخب الجاثمة علي صدره‏.‏ وأنه أصبح يواجه العنف الطائفي الممتد علي مدي القرون الأربعة الماضية بنفسه ومن دون خطط أو استراتيجيات واضحة للتخلص منه وهزيمته‏.‏ وأن الأزمة التي تتفاقم يوما بعد يوم وسنة بعد سنة ازداد اطرافها قسوة وعنادا‏،‏ واحترفت فيها النخب السياسية حديث المهدئات‏، وادمنت النخب المثقفة وقيادات المجتمع الخطب الحماسية والأحاديث الإذاعية والمقابلات التليفزيونية ومقالات الرأي المبتسرة‏.‏ 

ودليلي علي ذلك أنه في مثل هذه الأيام من العام الماضي داهمتنا حادثة نجع حمادي البشعة‏,‏ والتي رأي فيها الجميع نقلة نوعية في العنف الطائفي تدشن لما هو قادم من عمليات قتل عشوائية يمكن أن تحدث في المستقبل‏.‏ وقد كتبت وقتها‏,‏ وفي نفس هذه المساحة ما يلي‏:‏
والأمر الطبيعي في مثل هذه الحوادث المتكررة تقوم مؤسسات الدولة بتشكيل لجان للتحقيق ليس فقط في الحادثة الواحدة وإنما في سبب تكرار الحوادث وزيادة معدلاتها‏.‏ لكن هذا الأمر الطبيعي لم يحدث‏.‏
والمتوقع في مثل هذه الأحداث الجسام أن ينتفض نواب الأمة في مجلس الشعب ويشكلوا لجانا للتحقيق يكون من صميم اختصاصها مراجعة المسئولين الدينيين والمدنيين وأجهزة الأمن ومراكز الأبحاث‏,‏ ويكون من صميم عملها الاطلاع علي كل تفاصيل الأحداث من ملفات الجهات الأمنية إلي وثائق الخطاب الديني الذي قد يكون المحرض الأول علي الجرائم‏.‏
وفي مثل هذه الظواهر الاجتماعية المقلقة تنعقد مجالس أقسام العلوم الإنسانية بكل الجامعات والكليات ومراكز البحث وتعلن حالة الطوارئ لبحث المشكلة بشكل علمي دقيق وعميق‏,‏ وتمحص المشكلة من جميع جوانبها وتقدم الدراسات والأبحاث التي تنير الطريق أمام صاحب القرار السياسي ليهتدي بها في وضع الخطط العملية‏,‏ واتخاذ القرارات الصائبة و الحلول الناجعة للقضاء علي الأخطار الناجمة عن المشكلة‏.‏
وفي مثل هذه الأحداث ينشط علماء الدين والمفكرون المسلمون ليشكلوا معا فريقا لتوجيه الأمة وتوعيتها بالخطر وتقديم الطمأنينة والدعم لإخوتهم في الوطن‏.‏ ويسهر رجال الدين المسيحيون لدعم أبنائهم وطمأنتهم بأن لهم في المجتمع أخوة‏,‏ ويفتحوا ابواب الحوار والبحث عما يمكن أن يكون قد بدر منهم وساهم في الاحتقان‏.‏
وفي مثل الأحداث كما ينشط المجتمع المدني ليقدم النموذج الشعبي للتواصل والتحالف لخدمة المجتمع والوطن الذي يجمع بين المسيحي والمسلم واللاديني وصاحب أي دين تحت لافتة المجتمع المصري وعلم الوطن للدفاع عن السلم الاجتماعي وعدم التمييز‏.‏
وفي مثل هذه الجرائم الاجتماعية تتفرغ الأجهزة الأمنية لمسئوليتها في الدفاع عن أمن المواطن‏,‏ أي مواطن‏,‏ وكل مواطن ولاتتجه نحواستبعاد قوي المجتمع الأخري عن التصدي للمشكلة‏,‏ ولا تندفع نحو تبرير الأحداث وإلقاء التبعة علي مختل عقلي أومسجل خطر
في مثل هذه الحوادث الجسام يفعل الناس ما لم نفعله حتي الآن وعلي مدي أربعين سنة من التوتر الطائفي‏,‏ وعشر سنوات من الاعتداءات المسلحة من أفراد عاديين‏,‏ فمتي نفعل؟
والحقيقة هي أننا علي مدي عام كامل ، وبعد أن هزنا الحادث الجلل،  لم نفعل أيا مما ذكرته آنفا من واجبات وطنية‏، و رغم علمي بأن هناك بعض الاجتهادات هنا وهناك إلا انني أغامر بالقول أن كل ما اتحذ من هذه الاجراءات مثل عقد اللجان والمتابعات تمت بصورة روتينية ربما لإبراء الذمة وتسكين الأوضاع‏.‏
لكن الأخطر من ذلك إن نخبنا فعلت العكس تماما‏، فعلي مدي العام الماضي انخرط بعض من أهم "المفكرين|" الدينيين والدعاة ورجال الدين المسيحيين والمسلمين‏، وجميعهم من‏'‏ الكبار‏'، في سجالات طائفية عبثية ابتذل فيها الدين والوطن‏، وأصبحت مباراة السيطرة علي‏'‏ السيدتان‏'‏ هي معركة شرف الأديان ولو أدت إلي إحراق الوطن بأكمله‏.‏ وبدلا من أن يستمع أولئك وهؤلاء للأصوات العاقلة التي طالبتهم بالتوقف‏، تمادوا في إطلاق مزيد من المتفجرات في الساحة لتزداد اشتعالا وفوضي حتي أنها عرضت الوطن ولا أقول المسيحيين فقط إلي تهديدات الإرهاب الدولي‏.‏ وبالرغم من ذلك كله تثاقلنا جميعا في النهوض للتصدي لمسئولياتنا الجسام‏، واستسلمنا لأمانينا بألا تحدث القارعة‏,‏ وسلمنا بالنظرية الأمنية التي لا تهتم كثيرا في عملها المهني بالمشاركة الشعبية أو حتي مشاركة المؤسسات العلمية والبحثية الأخري‏.‏
وهكذا أفقنا علي أصوات انفجارات وتطاير أشلاء وتناثر دماء وحشرجات موت وصراخ وعويل‏، وأدركنا جميعا أن من قتلوا هم أحباء وأصدقاء وشركاء وطن‏,‏ لكننا حتي الآن لم ندرك بعد أن‏'‏ أيادينا ملآنة دم‏'.‏

السبت 4 من صفر 1432 هــــــ   8 يناير 2011 السنة 20 العدد 7195