خلال أعوام ثلاثة من وجوده علي الإنترنت غير موقع تسريب المعلومات ويكيليكيس إلي غير رجعة مفاهيم كانت قد استقرت في وعي الإنسانية علي مدي عقود وربما قرون ماضية.
فمفاهيم مثل سرية المعلومات وسيطرة الدولة عليها لضمان أمنها وأمن مواطنيها اصبحت محل تساؤل, كما أن ما استقر عليه الأمر من تفويض للقنوات الدبلوماسية والأجهزة الاستخباراتية المعاونة لها للحصول علي المعلومات وإبقائها بعيدا عن متناول الأخرين من المواطنين والأعداء علي حد سواء أصبح محل جدل، خاصة فيما يتعلق بجدواه ومنفعته للمواطن العادي.
والواقع أن تاريخ الدبلوماسية الحديثة وما تلاها من ظهور أجهزة الاستخبارات والمعلومات جاء كأحد النتائج البارزة لاستقرار الدولة القومية باعتبارها اللاعب الأساسي في السياسة الدولية. وقد نمت داخل هذه الدولة القومية تقاليد الدبلوماسية الحديثة وفي ظل الثورة الصناعية والتطور الرأسمالي اللذين أديا إلي الحقبة الاستعمارية, وهي الحقبة التي تنافست فيها الدول القومية الأوروبية بين بعضها البعض علي مناطق النفوذ والتمدد في أنحاء العالم المختلفة.
في هذه الحقبة ترسخت تقاليد الدبلوماسية الغربية التي تمحور دورها في المساعدة في تأمين الأسواق لمنتجات مصانع مواطني الدولة التي تمثلها, والذي يعود بعوائد ضخمة علي أصحاب الأموال والرعاة الرأسماليين للنخب الحاكمة فيها. ويؤكد ذلك ما يعرفه دارسو تاريخ الدبلوماسية الأمريكية الذي يتفق الجميع علي أنها بدأت عملها الدبلوماسي الدولي في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية في سبعينيات القرن التاسع عشر بالسعي لوضع المنتجات والسلع الأمريكية علي خريطة الأسواق العالمية.
في هذا السياق نشأت الأفكار الأولي عن سرية المعلومات ونشأت الموجة الأولي من أجهزة الاستخبارات حيث جري تمرير فكرة أهمية المعلومات وسريتها كأحد الأسلحة المهمة في المنافسات الرأسمالية الشرسة, وتدريجيا أصبح الحفاظ عليها أحد مؤشرات الكفاءة الوطنية للدولة ومحك الصدق الوطني للأفراد.
ومنذ بداية الحرب العالمية الثانية أصبحت لقضية المعلومات وسريتها والسيطرة عليها أولوية, وضاعف من ذلك السباق المحموم لانتاج الشفرات المعقدة لإرسال الرسائل المشفرة دون أن تصل إلي يد الاعداء. وتعاظم الشعور الوطني العام بأهمية وعي المواطن العادي بأن قاعدة سرية المعلومات هي في الأخير إحدي الضمانات الرئيسية لأمنه ووطنه من الأعداء. ومن ثم تنازل المواطنون عن حق الحصول علي المعلومات, الذي يكفله لهم أنهم مصدر السلطات, للدولة التي تكفل لهم عبر سرية المعلومات الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية وأمنهم الوطني.
وأثناء الحرب الباردة أصبحت القدرات الاستخبارية للأجهزة الأمنية والسفارات ليست فقط ضرورة دفاعية وإنما مدعاة للتفاخر والدعائية, فقدرة الأجهزة علي السطو علي معلومات العدو وحراسة معلومات الوطن كانت مصدرا للكثير من الأساطير الأدبية و الفنية وخاصة السينمائية منها, ومن منا لا يذكر العميل007, جيمس بوند الذي تم تصويره علي إنه سوبرمان المخابرات الانجليزية علي مدي سنوات طوال.
غير أن كل هذا التاريخ قد تغير منذ بداية تسعينيات القرن العشرين, فمن ناحية أصبحت المنافسة علي الأسواق العالمية تدور بين الشركات العملاقة العابرة للقوميات, وهي وإن كانت ترتبط بحكومات الدول الكبري إلا إننا لا يمكننا اعتبارها مماثلة للشركات القومية التي صاحبت الفترة الاستعمارية, ومن ثم أصبح عنصر مصلحة المواطن العادي المحجوب عنه المعلومات أصبح غير ذي مضمون.
ومن ناحية أخري تصاعدت ظاهرة القضايا ذات الطابع الدولي والكوني وتصاعدت معها أدوار المنظمات الدولية علي حساب السيادة القومية مما أحدث تغييرا في الوعي القومي والوطني الذي أصبح يدور الآن في إطار كوكبي,
وقد ساعد علي ذلك ثورة الاتصالات والمعلومات, فعلي سبيل المثال فإن برنامج' جوجل إيرث' وهو برنامج للكرة الأرضية بتفاصيلها علي شبكة الإنترنت أحدث تغييرا جذريا في وعي الأجيال الجديدة حيث يمكنهم أن يروا الكرة الأرضية وقد ازيل من عليها كل الحدود
السياسية التي تعبر عن الدولة القومية, وعلي الرغم من ذلك يستطيع الفرد أن يحدد مسكنه ويضع عليه علامته الخاصة.
وظني أنه في ظل هذه المتغيرات الكاسحة لا يبدو غريبا أن تظهر ويكيليكس إلي الوجود لتعلن أن ما ساد علي الساحة من تقاليد سياسية ودبلوماسية علي مدي الأعوام السابقة في ظل المطبعة والدولة القومية لايمكن له أن يستمر في ظل الدولة المعولمة والشاشة, وأن ما كان مقصودا منه أمن الوطن ورفاهية المواطن أصبح الأن أداة للكذب علي المواطن لضمان تأمين المصالح للشركات العملاقة. ولم يكن غريبا أن يضعوا في صدر
الفيديو الذي يصور قتل المواطنين العراقيين والصحفيين عبارة من رواية جورج أوريل الشهيرة1984 وتقول العبارة:
' اللغة السياسية تم تصميمها لتجعل من الأكاذيب ما يبدو صدقا, ومن القتل ما يبدو محترما, ولتعطي للرياح مظهرا وصلابة'
وهكذا جري إسقاط القداسة التي أحاطت بالعمل الدبلوماسي ولغته, وجرت الإطاحة بسرية المعلومات وأهميتها للوطن وجدواها للأفراد لتتلقي الدولة القومية ضربة جديدة من ضربات العولمة.