زعمت في مقالي السابق أن مشروع الدولة الدينية الذي بدا حاضرا في أفق واقعنا السياسي علي مدي العقود الأربعة الماضية قد بات إلي زوال. وحجتي التي قدمتها هي أن المبشرين بهذه الدولة أصبحوا الآن أكثر قناعة باستحالة التطبيق المباشر للمبدأ الأساسي للدولة الدينية وهو مبدأ الحاكمية لله وما يتبعه من البيعة للخليفة صاحب الولاية.
غير أنني لا أدعي أن سبب مثل هذا التغير في موقف التيارات الفكرية الدينية المختلفة ان مشروع الدولة الحديثة قد حقق مكاسب دفعت أنصار الدولة الدينية إلي إعادة النظر في جدوي مشروعهم. فاعتقادي أن السبب في هذا التحول هو إخفاق مشروع الدولة الدينية نفسه في إقناع أحد بجدواه وخيريته, بل علي النقيض من ذلك فكل التطبيقات العملية لهذا المشروع بدءا من السودان وانتهاء بأفغانستان أكدت للجميع خطورة استنساخ نظام الحكم من القرن السابع الميلادي وزرعه قسرا في القرن العشرين وما يتلوه.
التغير في المواقف إذن سببه قناعة بعض مفكريه بعدم صلاحيته في صورته التقليدية وليس في نجاح الدولة الحديثة في غرس نبتتها في المجتمع.
وعندي أن فشل المشروع الديني وعدم نجاح المشروع الحداثي أدي إلي تبني الغالبية من النخبة موقفا يلتبسه بعض الغموض. فآية الدولة الحديثة هي أنها جعلت الحاكمية للشعب, فالأمة هي مصدر السلطات, والأهم أن مرجعية هذه الأمة هي العقل والعقلانية الكاملة, فالمبادئ الحاكمة للدولة تُستمد من الخبرة التاريخية للأمة, وربما من الخبرة الإنسانية بمعناها الشامل, والحكم في هذه الدولة هو للمؤسسات الدستورية الحديثة التي ينتخبها الشعب ويراقبها.
مثل هذا التصور الحداثي تم قبوله بدرجة ما من مفكري التيار الإسلامي, فهم من ناحية رفضوا الاستبداد المطلق الذي تنطوي عليه فكرة الحاكمية لله, وقبلوا بتوزيع السلطات وأن تصبح الأمة هي مصدرها, بل وأن تتم استعارة نماذج المؤسسات الحديثة للإدارة, لكنهم اشترطوا تقييد المرجعية الفكرية للمواثيق الحاكمة للدولة لتؤول بكاملها إلي النص الديني كبديل للعقلانية المطلقة التي تحكم الدولة الحديثة. ليصبح مثل هذا التوجه بمثابة دولة حديثة مشروطة أو بمثابة دولة شبه دينية.
في المقابل أدي تراجع مشروع الحداثة والدولة الحديثة في مصر إلي تراجع مماثل بين النخبة الحداثية, ففي مواجهة المد الديني الذي أصاب المزاج العام في الشارع المصري اتجهت النخبة الحداثية إلي إضفاء بعض من مظاهر الحضور الديني علي الدولة الحديثة التي تحرسها. ولعل أشهر هذه التوجهات هو التركيز علي المادة الدستورية الخاصة بدين الدولة والمرجعية التشريعية لها, فيما عرف بالمادة الثانية.
فالذي صاغ المادة الثانية من الدستور ودفع بها, لم يكن التيار الإسلامي الذي عرفناه لاحقا, وإنما صيغت من داخل الدولة الحديثة التقليدية, وقد صيغت بمهارة تجعل "مبادئ" الشريعة وليس النص الديني هو المرجعية الأولي التي يجوز أن تقبل معها مرجعيات أخري. فهي إذن محاولة لحل مأزق الدولة الحديثة في مجتمع غارق في التدين البسيط.
وظني أن الفاعلين في الدولة الحديثة أدركوا لاحقا أن مثل هذا النص يعطي مكسبا غير مباشر للتيار الديني فضلا عن كونه فرصة للتمييز بين المواطنين علي أساس الدين. فكانت الإضافة التالية لهم في المادة الأولي هي مبدأ المواطنة. ومن ثم إذا كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الدولة فيما يخص مرجعية القوانين فإن المادة الأولي تضع عليها قيودا حداثية فيما يخص المساواة بين المواطنين. وهو ما يجعلها دولة شبه حديثة أو دولة دينية مشروطة.
ولعل هذا ما يفسر لنا الاتفاق الضمني بين الحداثيين في الحكم من ناحية والتيار الديني في عمومه من ناحية أخري علي الإبقاء علي الصيغ الحالية في الدستور, فهي تضمن للطرفين الحد الأدني مما يطالبان به, وتنزع عنهما معا الاتهامات المسددة لهما. فالتيار الديني يستطيع الإدعاء بالتطور الملائم للقرن الحادي والعشرون ويقبل المواثيق القانونية الحالية كونها تحتكم للنص الديني ولهذا يركزعلي الدفاع عن المادة الثانية. بينما يستطيع الحداثين الإدعاء بأنهم لم يتخلوا عن الدولة الحديثة ومن ثم يتزايد دفاعهم عن مبدأ المواطنة. ومن ثم اتفق الطرفان ضمنيا علي إسقاط كل من تعبير "الدولة الحديثة" و"الدولة الدينية" واستبدالهما معا بتعبير "الدولة المدنية" وهو في رأيي تعبير غامض عن الدولة شبه الحديثة وشبه الدينية في آن واحد.
إن الموقف الحالي ينطوي علي مأزق مركب لدعاة الدولة الحديثة وأصحاب المشروع الديني, وليس أدل علي ذلك من أن الصيغة التي ارتضياها هي صيغة غير مستقرة توفر لكل الأطراف شدها للاتجاه الذي يراه محققا لتصوره. ولإن كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الحداثة والمادة الأولي تضع قيودا علي المشروع الديني, فإن هذا معناه أنه تم الاحتكام لوضع القيود المتبادلة كبديل لإطلاق الإبداع الفكري والسياسي وهو ليس بالأمر الصحي.
وعندي أن البديل هو إطلاق حوار شامل للبحث في المرجعية الحضارية الشاملة التي لا تهمل الدين ولكنها لا تهمل بالقدر نفسه الخبرة التاريخية للأمة وخاصة تجربتها الحداثية.
التغير في المواقف إذن سببه قناعة بعض مفكريه بعدم صلاحيته في صورته التقليدية وليس في نجاح الدولة الحديثة في غرس نبتتها في المجتمع.
وعندي أن فشل المشروع الديني وعدم نجاح المشروع الحداثي أدي إلي تبني الغالبية من النخبة موقفا يلتبسه بعض الغموض. فآية الدولة الحديثة هي أنها جعلت الحاكمية للشعب, فالأمة هي مصدر السلطات, والأهم أن مرجعية هذه الأمة هي العقل والعقلانية الكاملة, فالمبادئ الحاكمة للدولة تُستمد من الخبرة التاريخية للأمة, وربما من الخبرة الإنسانية بمعناها الشامل, والحكم في هذه الدولة هو للمؤسسات الدستورية الحديثة التي ينتخبها الشعب ويراقبها.
مثل هذا التصور الحداثي تم قبوله بدرجة ما من مفكري التيار الإسلامي, فهم من ناحية رفضوا الاستبداد المطلق الذي تنطوي عليه فكرة الحاكمية لله, وقبلوا بتوزيع السلطات وأن تصبح الأمة هي مصدرها, بل وأن تتم استعارة نماذج المؤسسات الحديثة للإدارة, لكنهم اشترطوا تقييد المرجعية الفكرية للمواثيق الحاكمة للدولة لتؤول بكاملها إلي النص الديني كبديل للعقلانية المطلقة التي تحكم الدولة الحديثة. ليصبح مثل هذا التوجه بمثابة دولة حديثة مشروطة أو بمثابة دولة شبه دينية.
في المقابل أدي تراجع مشروع الحداثة والدولة الحديثة في مصر إلي تراجع مماثل بين النخبة الحداثية, ففي مواجهة المد الديني الذي أصاب المزاج العام في الشارع المصري اتجهت النخبة الحداثية إلي إضفاء بعض من مظاهر الحضور الديني علي الدولة الحديثة التي تحرسها. ولعل أشهر هذه التوجهات هو التركيز علي المادة الدستورية الخاصة بدين الدولة والمرجعية التشريعية لها, فيما عرف بالمادة الثانية.
فالذي صاغ المادة الثانية من الدستور ودفع بها, لم يكن التيار الإسلامي الذي عرفناه لاحقا, وإنما صيغت من داخل الدولة الحديثة التقليدية, وقد صيغت بمهارة تجعل "مبادئ" الشريعة وليس النص الديني هو المرجعية الأولي التي يجوز أن تقبل معها مرجعيات أخري. فهي إذن محاولة لحل مأزق الدولة الحديثة في مجتمع غارق في التدين البسيط.
وظني أن الفاعلين في الدولة الحديثة أدركوا لاحقا أن مثل هذا النص يعطي مكسبا غير مباشر للتيار الديني فضلا عن كونه فرصة للتمييز بين المواطنين علي أساس الدين. فكانت الإضافة التالية لهم في المادة الأولي هي مبدأ المواطنة. ومن ثم إذا كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الدولة فيما يخص مرجعية القوانين فإن المادة الأولي تضع عليها قيودا حداثية فيما يخص المساواة بين المواطنين. وهو ما يجعلها دولة شبه حديثة أو دولة دينية مشروطة.
ولعل هذا ما يفسر لنا الاتفاق الضمني بين الحداثيين في الحكم من ناحية والتيار الديني في عمومه من ناحية أخري علي الإبقاء علي الصيغ الحالية في الدستور, فهي تضمن للطرفين الحد الأدني مما يطالبان به, وتنزع عنهما معا الاتهامات المسددة لهما. فالتيار الديني يستطيع الإدعاء بالتطور الملائم للقرن الحادي والعشرون ويقبل المواثيق القانونية الحالية كونها تحتكم للنص الديني ولهذا يركزعلي الدفاع عن المادة الثانية. بينما يستطيع الحداثين الإدعاء بأنهم لم يتخلوا عن الدولة الحديثة ومن ثم يتزايد دفاعهم عن مبدأ المواطنة. ومن ثم اتفق الطرفان ضمنيا علي إسقاط كل من تعبير "الدولة الحديثة" و"الدولة الدينية" واستبدالهما معا بتعبير "الدولة المدنية" وهو في رأيي تعبير غامض عن الدولة شبه الحديثة وشبه الدينية في آن واحد.
إن الموقف الحالي ينطوي علي مأزق مركب لدعاة الدولة الحديثة وأصحاب المشروع الديني, وليس أدل علي ذلك من أن الصيغة التي ارتضياها هي صيغة غير مستقرة توفر لكل الأطراف شدها للاتجاه الذي يراه محققا لتصوره. ولإن كانت المادة الثانية تضع قيودا دينية علي الحداثة والمادة الأولي تضع قيودا علي المشروع الديني, فإن هذا معناه أنه تم الاحتكام لوضع القيود المتبادلة كبديل لإطلاق الإبداع الفكري والسياسي وهو ليس بالأمر الصحي.
وعندي أن البديل هو إطلاق حوار شامل للبحث في المرجعية الحضارية الشاملة التي لا تهمل الدين ولكنها لا تهمل بالقدر نفسه الخبرة التاريخية للأمة وخاصة تجربتها الحداثية.
السبت 21 من ذى الحجة 1431 هــ 27 نوفمبر 2010 السنة 20 العدد 7153 |