مرة أخري تتعرض مصر ونسيجها الوطني والاجتماعي لضربة إرهابية وإجرامية قاسية, ومرة أخري يصبح أقباطها هدفا لقوي التعصب والإرهاب بما يهدد بدفعهم إلي مزيد من الذعر والتقوقع أو الانفجار العشوائي مثلما رأينا في الأيام السابقة
ومرة أخري تثبت الجماهير المصرية العادية بكافة طبقاتها, أللهم إلا قليلا, عافيتها وقدرتها علي الاحساس بالخطر والانتباه لمزالقه. فبدون إشارات من نخب أو قيادات أو كيانات تحرك المجتمع المصري كله لمحاصرة الخطر, وجاءت المبادرات الإيجابية الصادقة والتي تحمل طابعا حضاريا وإنسانيا راقيا من الأفراد علي كافة المستويات وخاصة من الأجيال الشابة التي اتهمناها كثيرا بالسطحية واللامبالاة.
والواقع أن هذه التحركات الشعبية الإيجابية في مجملها كشفت بما لا يدع مجالا للشك ان المجتمع المصري أقوي من النخب الجاثمة علي صدره. وأنه أصبح يواجه العنف الطائفي الممتد علي مدي القرون الأربعة الماضية بنفسه ومن دون خطط أو استراتيجيات واضحة للتخلص منه وهزيمته. وأن الأزمة التي تتفاقم يوما بعد يوم وسنة بعد سنة ازداد اطرافها قسوة وعنادا، واحترفت فيها النخب السياسية حديث المهدئات، وادمنت النخب المثقفة وقيادات المجتمع الخطب الحماسية والأحاديث الإذاعية والمقابلات التليفزيونية ومقالات الرأي المبتسرة.
ودليلي علي ذلك أنه في مثل هذه الأيام من العام الماضي داهمتنا حادثة نجع حمادي البشعة, والتي رأي فيها الجميع نقلة نوعية في العنف الطائفي تدشن لما هو قادم من عمليات قتل عشوائية يمكن أن تحدث في المستقبل. وقد كتبت وقتها, وفي نفس هذه المساحة ما يلي:
والأمر الطبيعي في مثل هذه الحوادث المتكررة تقوم مؤسسات الدولة بتشكيل لجان للتحقيق ليس فقط في الحادثة الواحدة وإنما في سبب تكرار الحوادث وزيادة معدلاتها. لكن هذا الأمر الطبيعي لم يحدث.والمتوقع في مثل هذه الأحداث الجسام أن ينتفض نواب الأمة في مجلس الشعب ويشكلوا لجانا للتحقيق يكون من صميم اختصاصها مراجعة المسئولين الدينيين والمدنيين وأجهزة الأمن ومراكز الأبحاث, ويكون من صميم عملها الاطلاع علي كل تفاصيل الأحداث من ملفات الجهات الأمنية إلي وثائق الخطاب الديني الذي قد يكون المحرض الأول علي الجرائم.وفي مثل هذه الظواهر الاجتماعية المقلقة تنعقد مجالس أقسام العلوم الإنسانية بكل الجامعات والكليات ومراكز البحث وتعلن حالة الطوارئ لبحث المشكلة بشكل علمي دقيق وعميق, وتمحص المشكلة من جميع جوانبها وتقدم الدراسات والأبحاث التي تنير الطريق أمام صاحب القرار السياسي ليهتدي بها في وضع الخطط العملية, واتخاذ القرارات الصائبة و الحلول الناجعة للقضاء علي الأخطار الناجمة عن المشكلة.وفي مثل هذه الأحداث ينشط علماء الدين والمفكرون المسلمون ليشكلوا معا فريقا لتوجيه الأمة وتوعيتها بالخطر وتقديم الطمأنينة والدعم لإخوتهم في الوطن. ويسهر رجال الدين المسيحيون لدعم أبنائهم وطمأنتهم بأن لهم في المجتمع أخوة, ويفتحوا ابواب الحوار والبحث عما يمكن أن يكون قد بدر منهم وساهم في الاحتقان.وفي مثل الأحداث كما ينشط المجتمع المدني ليقدم النموذج الشعبي للتواصل والتحالف لخدمة المجتمع والوطن الذي يجمع بين المسيحي والمسلم واللاديني وصاحب أي دين تحت لافتة المجتمع المصري وعلم الوطن للدفاع عن السلم الاجتماعي وعدم التمييز.وفي مثل هذه الجرائم الاجتماعية تتفرغ الأجهزة الأمنية لمسئوليتها في الدفاع عن أمن المواطن, أي مواطن, وكل مواطن ولاتتجه نحواستبعاد قوي المجتمع الأخري عن التصدي للمشكلة, ولا تندفع نحو تبرير الأحداث وإلقاء التبعة علي مختل عقلي أومسجل خطرفي مثل هذه الحوادث الجسام يفعل الناس ما لم نفعله حتي الآن وعلي مدي أربعين سنة من التوتر الطائفي, وعشر سنوات من الاعتداءات المسلحة من أفراد عاديين, فمتي نفعل؟
والحقيقة هي أننا علي مدي عام كامل ، وبعد أن هزنا الحادث الجلل، لم نفعل أيا مما ذكرته آنفا من واجبات وطنية، و رغم علمي بأن هناك بعض الاجتهادات هنا وهناك إلا انني أغامر بالقول أن كل ما اتحذ من هذه الاجراءات مثل عقد اللجان والمتابعات تمت بصورة روتينية ربما لإبراء الذمة وتسكين الأوضاع.
لكن الأخطر من ذلك إن نخبنا فعلت العكس تماما، فعلي مدي العام الماضي انخرط بعض من أهم "المفكرين|" الدينيين والدعاة ورجال الدين المسيحيين والمسلمين، وجميعهم من' الكبار'، في سجالات طائفية عبثية ابتذل فيها الدين والوطن، وأصبحت مباراة السيطرة علي' السيدتان' هي معركة شرف الأديان ولو أدت إلي إحراق الوطن بأكمله. وبدلا من أن يستمع أولئك وهؤلاء للأصوات العاقلة التي طالبتهم بالتوقف، تمادوا في إطلاق مزيد من المتفجرات في الساحة لتزداد اشتعالا وفوضي حتي أنها عرضت الوطن ولا أقول المسيحيين فقط إلي تهديدات الإرهاب الدولي. وبالرغم من ذلك كله تثاقلنا جميعا في النهوض للتصدي لمسئولياتنا الجسام، واستسلمنا لأمانينا بألا تحدث القارعة, وسلمنا بالنظرية الأمنية التي لا تهتم كثيرا في عملها المهني بالمشاركة الشعبية أو حتي مشاركة المؤسسات العلمية والبحثية الأخري.
وهكذا أفقنا علي أصوات انفجارات وتطاير أشلاء وتناثر دماء وحشرجات موت وصراخ وعويل، وأدركنا جميعا أن من قتلوا هم أحباء وأصدقاء وشركاء وطن, لكننا حتي الآن لم ندرك بعد أن' أيادينا ملآنة دم'.
السبت 4 من صفر 1432 هــــــ 8 يناير 2011 السنة 20 العدد 7195
No comments:
Post a Comment