ربما كانت أقدم قصص محاولات الانتحارالمعروفة في التاريخ، تلك التي قام بها هذا الفليسوف المصري القديم. فقد أقدم منذ أكثر من أربعة آلاف عام علي الانتحار حرقا، وربما حدث ذلك في أعقاب انهيار الدولة المصرية القديمة، دولة بناة الأهرامات العظام. لكنه توقف ليشرح لنا موقفه من الحياة والموت. وليضع أمامنا أسبابه في اختيار الموت وتفضيله علي الحياة
ففي قصته المسجلة في بردية شهيرة محفوظة في متحف برلين يقدم لنا هذا المصري القديم أقدم حوار مع الذات، وهو يبدأ بوصف حالته الكئيبة والميؤس منها والتي تدفعه دفعا للانتحار. ففي فصل شعري طويل يصف لنا حالته المزرية التي أصبحت لا تطاق. يقول اليائس من الحياة واصفا نفسه
إن اسمي ممقوت، أكثر من رائحة التماسيح في يوم حار
إن اسمي ممقوت، أكثر من المرأة التي يتقولون عليها بالزنا
إن اسمي ممقوت، أكثر من الفتي الجبان الذي يسلم نفسه لخصمه
إن اسمي ممقوت، أكثر من مدينة تغلي بالتمرد عندما يغفل عنها حاكمها
وهذا اليائس التاريخي الذي لا يطيق نفسه له أسبابه، فالواقع الاجتماعي الذي كان يعيش فيه كان ظالما، يرتع فيه الشر في كل مكان، وتراجع فيه الخير عن جميع الناس. حتي الإخوة والأصدقاء اصبحوا اعداء لبعضهم البعض. فالقوة والثروة ذهبت للأشرار، والجار يسرق جاره والفلاح يذهب إلي الحقل حاملا سلاحه. فقد قل الأمان والخير والوفاء، ولم يعد للإنسان من صديق أو أخ أو جار يتحدث إليه وهذا هو ما يقرره اليائس من الحياة في الجزء الثاني من قصته، إنه يقول
لمن أتكلم اليوم، الاخوة شر وأصدقاء اليوم بلا حب
لمن أتكلم اليوم، فالقلوب سارقة والكل ينهب متاع جاره
لمن أتكلم اليوم، الوداعة انتهت والصفيق الوجه حط في كل مكان
لمن أتكلم اليوم، الكل يشيح بوجهه حتي عن اخيه
لمن أتكلم اليوم، ليس هنالك أناس عادلون والأرض تركت لصانعي الشر
لمن أتكلم اليوم، ليس من صديق وفي والناس يلجأون إلي المجهول
لمن أتكلم اليوم، ليس هناك انسان قانع ولم يعد وجود للرفيق في الحياة
لمن أتكلم اليوم، اني مثقل بالمتاعب فليس لي صديق
لمن أتكلم اليوم، الشر الذي يطوف العالم لا نهاية له
وهكذا لم يعد لصاحبنا مكانا في هذا العالم الشرير، وهذا المجتمع الظالم والقاسي. فقد أصبح الوطن غربة قاسية، وهو لا يستطيع أن يتعامل في هذا المجتمع بقوانينه العنيفة وقيمه الكاذبة. لقد أصبحت الحياة جحيما لا يطاق، وهكذا يصبح الموت هو الطريق الوحيد للخلاص من هذا العالم الشرير البائس، ويصبح الاقدام علي الانتحار عمل خلاصي شجاع وخير. فاليائس من الحياة يتغزل في الموت ويقول
الموت امام عيني اليوم، بمثابة الشفاء من المرض
الموت امام عيني اليوم، كالتحرر من السجن
الموت امام عيني اليوم، كالجلوس تحت شراع في يوم عليل النسيم
الموت امام عيني اليوم، كشذي زهرة اللوتس
الموت امام عيني اليوم، كالسماء الصافية
الموت امام عيني اليوم، كرجل يحن الي بيته بعد سنوات من الأسر
ولا نعرف إن كان صاحب النص انتحر أم لا ففي الجزء الأخير من البردية نجد نفسه تحاوره، لتثنيه عن الانتحار مذكرة إياه بأن تحمل متاعب الحياة وانتظار الموت الطبيعي أفضل من الإقدام علي إهلاك النفس والجسد. علي أن النص لا يعطينا إجابة إن كان قد استجاب أم لا
والنص الذي عرضت لك أجزاء قليلة منه عن هذا اليائس من الحياة يدلك بوضوح علي أن اليأس من الحياة لم يتغير منذ الألف الثالثة قبل الميلاد إلي أبواب الألف الثالثة بعده، فعلي مدي آلاف السنين يقف المنتحر ليشرح لنا نفس المشاعر الحزينة التي تكتنفه، ويصرخ إلينا ونحونا شارحا نفس المشاكل الاجتماعية التي تدفعه دفعا إلي الانطواء والارتباك والخوف والعزلة، ثم في النهاية إلي اختيار الموت شاطئ ومرفأ له يستخدم أكثر الأدوات ألما للوصول اليه
ويبدو لي أن أحدا لم يفهم "اليائس من الحياة " لا بالأمس البعيد ولا بالأمس القريب، وربما لن يفهمه أحد في الغد القريب أو المستقبل، فلا يبدو أن هناك من يتعلم من تجارب التاريخ
السبت 18 من صفر 1432 هــــــــ 22 يناير 2011 السنة 20 العدد 7209