ليست الزيارة الأولى للبابا السكندرى إلى روسيا فقد سبقتها زيارتان قام بهما البابا شنودة الثالث، الأولى فى عام 1972 والثانية فى عام 1988 للاحتفال بألفية الكنيسة الروسية. ولا تمثل هذه الزيارات البابوية الاتصال الوحيد بين الكنيستين، فقد كانت هناك اتصالات كثيرة منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الآن.
لكنها بالتأكيد ستكون أهم الزيارات ولفترة طويلة، فهى تأتى فى ظل تحولات تاريخية يشهدها العالم، وتشهدها منطقتنا، مهد المسيحية فى العالم. وهى تأتى على خلفية أحداث جسام يتعرض لها مسيحيو الشرق الأوسط.
وحتى نفهم أهمية الزيارة، علينا أن نحدد من البداية موقع طرفيها، الضيف والمضيف، من العالم المسيحي، وموقفهما من القضايا المطروحة عليه فى اللحظة الراهنة.
ويتشكل العالم المسيحى من أربع عائلات كبري. أول هذه العائلات العائلة الكاثوليكية التى تنتشر فى جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية، ومركز قياداتها الفاتيكان. وثانيها العائلة الأرثوذكسية الشرقية (Eastern Orthodox Churches) وتتكون من سبع عشرة كنيسة مستقلة تقع معظمها فى شرق أوروبا بالإضافة إلى اليونان، ومركز ثقلها الروحى والقيادى هو الكنيسة الروسية. وثالثها العائلة الأرثوذكسية المشرقية (Oriental Orthodox Churches) وتضم الكنائس الأرمنية، والإثيوبية، والسريانية، وأكبرها كنيستنا القبطية المصرية. وآخرها العائلة البروتستانتية، وتنتشر كنائسها فى الولايات المتحدة الأمريكية وشمال أوروبا، وهى تتكون من تيارات فكرية مختلفة تنسق بين بعضها البعض عبر اتحادات مختلفة ولكن ليس لها مركز ثقل خاص لأى من كنائسها.
وباستثناء العائلة المشرقية، التى على رأسها الكنيسة القبطية، فإن العائلات الثلاث الأخرى حاولت تاريخيا التمدد على حساب بعضهم البعض أحيانا، وعلى حساب العائلة المشرقية فى معظم الأحيان. ومن ثم كان الموقف التاريخى للكنيسة القبطية هو الحذر فى التعامل مع القوى المسيحية الدولية، فالتوجه الاستراتيجى للكنيسة القبطية كان دائما الحفاظ على استقلالية الكنيسة عن أى كيان عالمى والحفاظ على علاقات ندية مع الجميع، ولم تكن العلاقة مع الكنيسة الروسية استثناء.
والواقع أن العلاقة بين الكنيستين لم تكن مثالية فى أى فترة من فترات التاريخ، فالكنيسة الروسية كانت ترى الكنائس المشرقية وعلى رأسها الكنيسة القبطية خارج الإيمان المسيحي، وكانت تسعى طول الوقت إلى إدخالها ضمن المنظومة الشرقية التى تقودها. وفى هذا السياق فقد حاولت فى القرن التاسع عشر محاولتين كادت أن تنجح فى إحداها بسبب ما مارسه الخديوى سعيد تحت تأثير الوشايات الأجنبية من ضغوط عنيفة على البابا كيرلس الرابع بطريرك الكنيسة القبطية فى ذلك الوقت.
واستمر هذا الموقف من الكنيسة الروسية نحو الكنيسة القبطية حتى نهايات القرن العشرين، فقد أعاقت التوقيع على اتفاقية قام عليها بطريرك القسطنطينية المسكونى لحل الخلافات العقائدية بين العائلتين الشرقية والمشرقية وفى قلبها الكنيسة القبطية، فقد أصرت الكنيسة الروسية على أن تقر الكنائس المشرقية بخطئها العقدى على مدى القرون الماضية وعلى عودتها إلى الإيمان القويم، وهو الموقف الذى رفضته الكنيسة القبطية شكلا وموضوعا.
وفى سياق المعطيات السابقة كان من غير المتوقع أن يتبدل موقف الكنيسة الروسية عما اعتادت عليه، لكن تزامن مجيء الرئيس بوتين إلى السلطة فى نهاية عام 1999 ثم أحداث الحادى عشر من سبتمبر ودخول روسيا فى مشكلة الشيشان، كل هذه التغيرات أحدثت تغيرا كبيرا فى مواقف الكنيسة الروسية، فبعد ان كان الخطر الأساسى الذى كان يتهدد الكنيسة الروسية هو التبشير البروتستانتى والتمدد الكاثوليكى فى الفضاء الأرثوذكسى أصبح خطر التشدد الإسلامى هو الشاغل الأساس.
وفى هذا السياق تطابقت الرؤى بين ما هو دينى يخص الكنيسة وما هو سياسى يخص الأمن القومى للدولة، فكلاهما يرى أن الخطر الداهم على الفضاء الأرثوذكسى الشرقى والأمن القومى الروسى يأتى من حزام التشدد الإسلامى الذى يحيط بجنوب روسيا وأوروبا الشرقية.
لهذه الأسباب مجتمعة أصبح الشرق الأوسط وكنائسه محط اهتمام الكنيسة الروسية.
ويبدو لى أن الكنيسة الروسية أصبحت الآن مهتمة بإقامة علاقات قوية مع كنائس المنطقة دون النظر للتطابق العقدى معها، وليس غريبا أن توافق الكنيسة الروسية على مطلب الكنيسة القبطية الذى يحمله البابا تواضروس لبناء كنيسة قبطية فى روسية تعمل على رعاية الأقباط المقيمين هناك. كما أنه ليس غريبا أن تبدأ حوارا جادا ونديا مع الكنيسة القبطية حول القضايا العقائدية المختلف عليها، ويؤشر على جديتها وجود الأنبا بيشوى الأسقف القبطى المسئول عن ملف العقيدة فى الكنيسة ضمن الوفد المرافق للبابا.
ولعل هذا التغير يفسر أيضا إدراج برنامج الزيارة مقابلات البابا لبعض رموز الدولة الروسية، مثل وزير الخارجية الروسي، وربما الرئيس بوتين، ولسنا نظن أن الهدف من هذه اللقاءات المباحثات السياسية، وإنما إرسال إشارة احترام للدولة المصرية والكنيسة القبطية كمؤشر لما هو متوقع فى المستقبل.
إن زيارة البابا تواضروس الحالية إلى روسيا تاريخية بامتياز والأمل معقود على ما يمكن أن تتمخض عنه الزيارة
ليس فقط لصالح الكنيستين، وإنما لصالح البلدين.